الأفق السوري لما يحصل في الشرق الأوسط وأزماته في العراق والأراضي الفلسطينية ولبنان، هو الأكثر غياباً في المؤسسات الرسمية الألمانية ذات العلاقة بشؤون الشرق الأوسط. غير ان الديبلوماسية الألمانية تتأرجح بين استعداد المعتدلين لتقديم « سلة حوافز» سياسية واقتصادية في حال أجرت دمشق «تغييراً في السلوك»، وبين متشددين يستغربون مجرد طلب حوافز مقابل «العودة إلى جادة الصواب والأسرة الدولية»!

ولدى تفحص آراء مستشاري صناع قرار برلين إزاء قضايا الشرق الأوسط، تصبح الصورة محبطة من وجهة النظر الرسمية السورية، وتكشف مدى غياب دمشق ديبلوماسياً وإعلامياً وسياسياً عن الأروقة الاستشارية والرسمية في برلين: دمشق تلعب دوراً سلبياً او لا تلعب الدور الإيجابي الكافي في الأزمات الثلاث المحيطة بها وتنتظر لعب دور صانع الاستقرار. أصابع اليد توجه دائماً الى دمشق: هناك مزاعم في شأن تهريب اسلحة واعادة تسليح «حزب الله» والعلاقة مع «فتح الاسلام» ودعم المتمردين في العراق ودعم إيران إقليمياً والاقتتال بين «فتح» و «حماس»، وهناك عدم اعتراف كامل وديبلوماسي بلبنان وعدم التعاطي معه كدولة مستقلة ومتكافئة.

القليل في العاصمة الالمانية، من سمع بالنفي السوري لـ «اي علاقة» مع «فتح الاسلام» واعتبارها «منظمة ارهابية» وبنفي تهريب أسلحة إلى «حزب الله» وباستئناف العلاقات الديبلوماسية مع بغداد واجراءات ضبط الحدود التي قوبلت بـاطراء سياسي وعسكري في لندن وعسكري في واشنطن.

هناك قناعة المانية ان «جميع أزمات الشرق الأوسط مترابطة بعمق» كما هي قناعة معظم المحللين وصناع القرار. غير ان الخلاف يبرز لدى البحث عن الحلول، ذلك ان المستشارة الالمانية انجيلا ميركل من اصحاب الرأي القائل بـ»الخطوة بعد خطوة في كل ملف».

كيف يترجم ذلك بسياسات على الارض؟ في العراق، الملف معقد والمساهمة الالمانية صغيرة، حيث حرص وزير الخارجية هانز فرانك شتاينماير على حضور مؤتمر أمن العراق في شرم الشيخ في بداية الشهر الماضي. وطالما ان المشكلة امنية، فإن القدرة على التأثير الديبلوماسي ضئيلة، لكن ألمانيا تتوقع من دمشق وطهران ان تلعبا دوراً بناء. في ايران، هناك القليل من هامش المناورة في ما يتعلق بالبرنامج النووي الايراني ذلك اوروبا قدمت عرضاً سخياً وينتظر الرد الإيراني، وهي تستمر في ممارسة السياسة المزدوجة: الضغط والعقوبات بالتزامن مع الحوار الديبلوماسي بين الامين العام للمجلس القومي علي لاريجاني ومنسق الشؤون الخارجية خافيير سولانا.

وفي ما يتعلق بالأوضاع في الأراضي الفلسطينية، يبدي الالمان «غبطة» لأن المستشارة ميركل وراء اقناع الرئيس جورج بوش بإحياء اللجنة الرباعية في بداية العام الحالي. عليه، ان الحل بقيام دولتين، لكن الطرفين الاسرائيلي والفلسطيني هما من يقومان بذلك. ولا بد من «بناء الثقة» وان تدعم الأطراف الأخرى، بما فيها سورية، هذا الاتجاه.

لكن المسألة في لبنان تبدو من الافق الالماني اكثر تعقيداً وحساسية. وهي تبدأ عسكرياً من «عقدة» الحرب العالمية الثانية عندما هزمت المانيا في تلك الحرب، وتزداد العقد تعقيداً اذا كان الانخراط العسكري يمس إسرائيل، وذلك على خلفية التاريخ النازي والمحرقة. يقول أحدهم :»الحرب في ذهننا لا تعني الانتصار بل الهزيمة فقط، والانخراط العسكري في أي مكان ينظر اليه بحذر». لكن ما ساعد على مساهمة ألمانيا في تنفيذ المراقبة البحرية ضمن مهمة «يونيفيل» بعد صدور القرار 1701 في صيف العام الماضي، ان هذه الخطوة جاءت بعد الانخراط في كوسوفو حيث كان حضور اللاجئين في اوروبا عاملاً مساعداً على اقناع الرأي العام الالماني، وبعد المشاركة في القوات المتعددة في افغانستان التي قدمت في سياق «الحرب على الإرهاب».

وما عزز اشتراك ألمانيا في «يونيفيل» أن رئيس الوزراء الاسرائيلي ايهود اولمرت شجعها على إرسال قوات الى لبنان، وان ميركل قدمت شرحاً ينطلق من الحساسيات المحلية من ان المساهمة الالمانية ستساهم في امن اسرائيل. ويوضح احدهم :»الطرفان اللبناني والإسرائيلي اتفقا على وقف الحرب وتوسيع قوات يونيفل، وبالتالي فإن المشاركة الألمانية في المراقبة البحرية وضبط الحدود، تساهم في الدفاع عن اسرائيل». مع ذلك، فإن هاجس القلق يكاد لا يفارق صناع القرار في برلين: ماذا لو اضطرت القوات الالمانية للاشتباك مع الاسرائيليين؟ كانت القوات الالمانية عاشت هذه التجربة عندما اقتربت طائرات اسرائيلية من سفن المانية، ولا يزال هذا «الكابوس» حاضراً في الذاكرة الالمانية.

وضمن هذه السياقات، لا بد من النظر الى موضوع ضبط الحدود اللبنانية مع سورية. هناك «مشروع الماني رائد» يتضمن نشر خمسة خبراء ومعدات للمساهمة في ضبط الحدود الشمالية ومنع التهريب. وبحسب الرأي الاستشاري الالماني، هناك حدود واضحة بين سورية ولبنان وهي امور ملموسة لا بد من احترامها. يمكن الجدل في موضوع دعم حكومة الرئيس فؤاد السنيورة والعلاقات الديبلوماسية وترسيم الحدود. لكن الحدود هي امر واقع ويمكن التعاون لضبطها، طالما ان دمشق تقول ان الظروف غير مواتية لاقامة علاقات ديبلوماسية كاملة.

بل ان بعض الالمان يذهب الى احتمال ان تكون الحدود هي «سموكنغ غان» لتصعيد عسكري محتمل على الحدود السورية-اللبنانية. ربما تكون هذه ذريعة لعمل عسكري إسرائيلي نتيجة قيام منظمة ما بتهريب أسلحة.

ويحرص أصحاب هذا التحليل التحذير على التذكير بأن الألمان كانوا أول من توقع في العام الماضي شن إسرائيل حرباً واسعة ضد «حزب الله» اذا وجدت الذريعة.

الجانب السوري يعتبر نشر قوات «يونيفيل» على حدوده مع لبنان «عملاً عدائياً» ستقابله دمشق بإغلاق الحدود. ويقول انه طلب مناظير ليلية ومسّاحات لضبط الحدود وان الجانب الالماني رفض ذلك مع انه اعطى تلك المعدات الى الجانب اللبناني. غير ان الرأي في برلين مختلف: وزير الداخلية الالماني زار دمشق وشدد على اهمية التزام القرار 1701 واحترام الحدود وأبدى الاستعداد لاستقبال خبراء سوريين لاختيار المعدات والتدرب عليها قبل الاتفاق على آلية عملها وتشغيلها. يضاف الى ذلك، ان الجانب الالماني يتحدث عن ضرورة وجود «ضمانات» بعدم وصول المناظير الليلية الى طرف ثالث. وبين الرأيين السوري والالماني جمد الموضوع. وهناك معلومات تفيد ان وزير الخارجية الايطالي ماسيمو داليما توصل الى اقناع دمشق بقبول معدات وخبراء لتدريب حرس الحدود السوريين لمنع التهريب في الاتجاهين.

لا يقدم الألماني «لائحة مطالب» في اطار ما بات يعرف بـ «تغيير السلوك» السوري بل يتحدث عن توقعات اوروبية عموماً وألمانية خصوصاً بأن تقوم دمشق بجملة من «التحسينات». وكانت الديبلوماسية الألمانية من داعمي الاقتراح الأوروبي بأن يأتي سولانا الى دمشق كي يحمل «رسالة اوروبية واحدة» بعدما ظهرت اشياء «معيبة» تمثلت بتفاوت الرسائل الاوروبية باختلاف الوزير القادم الى دمشق.

ولدى السؤال عن «الحوافز» التي يمكن ان تقدمها برلين في حال «تغير السلوك» الدمشقي، تختلف الاجابة باختلاف اتجاه المستشارين، بين الاستغراب من ان تسأل اي دولة عن «الحوافز كي تكون جزءا من المجتمع الدولي» وبين الاستعداد لتقديم «حوافز». وضمن هذا السياق، اعتبرت زيارة الوزير شتاينماير في كانون الاول (ديسمبر) الماضي قضية خلافية بين المستشارة ووزير الخارجية، إذ اعتقد المتشددون انها اكدت وجهة نظرهم في ان دمشق «لن تعطي شيئا» الى شتاينماير. (ديبلوماسي سوري يقول: اذا وافقنا على المنطق الاوروبي بأن نعطي شيئاً لكل وزير اوروبي لدى مجيئه الى سورية، فلن يبقى معنا شيئاً. وهو يدافع عن منطق الانخراط بعملية سياسية وحوار ثنائي يؤدي الى نقاط مشتركة وتبادل الأخذ والعطاء).

وتشمل السلة الألمانية من الحوافز، توقيع اتفاق الشراكة مع سورية الذي كانت فرنسا ودول أخرى عرقلته بعد توقيعه بالأحرف الأولى في نهاية العام 2004، والاستعداد لدعم الإصلاحات الاقتصادية والمؤسساتية لتحسين الوضع الاقتصادي، خصوصاً في ظل تراجع عائدات النفط وارتفاع معدلات الفقر. وفي هذا الإطار، ستزور وزيرة التعاون الدولي هايده ماري فيتشوريك تسويل دمشق يومي 8 و9 الشهر المقبل ضمن تعزيز دعم الإصلاح الاقتصادي في سورية.

والى اجراء حوار سياسي، مع إدراك للحجم والنفوذ الفعليين لألمانيا، لإنهاء العزلة نهائياً مع الدول الاوروبية واميركا و»الدول المعتدلة» والتعاون الامني ضد الارهاب وتنظيم «القاعدة» باعتبار ان النظام السوري علماني يمكن ان يتأثر من الازمات المحيطه به، تشمل «سلة الحوافز» دعم تسوية شاملة تشمل جميع المسارات وتكفل استعادة الجولان. لذلك، لم تكن صدفة، بحسب التقويم الالماني، مشاركة وزير الخارجية السوري وليد المعلم في اجتماع اللجنة الرباعية الدولية ولجنة تفعيل مبادرة السلام العربية على هامش مؤتمر شرم الشيخ، بحيث انها باتت تشمل المسار السوري. كما لم تكن صدفة ان يكون شتاينماير هو الذي نقل اسئلة رئيس الوزراء الاسرائيلي ايهود اولمرت في شأن «الثمن» الذي يمكن ان تقدمه سورية في حال أعيد الجولان اليها: في لبنان و»حزب الله»، الاراضي الفلسطينية و»حماس»، في الشرق الاوسط والعلاقة مع ايران.

جاء ذلك وسط أصوات متشددة في ألمانيا، التي لا تحكم بالنظام الرئاسي مثل فرنسا بل بالتوافق بين مؤسستي المستشارية والخارجية، تقول ان «الأولوية يجب ان تكون للمسار الفلسطيني وليس للسوري» باعتبار ان مسؤولين إسرائيليين قالوا انهم لا يستطيعون التفاوض على مسارين في آن واحد.

مصادر
الحياة (المملكة المتحدة)