فجر تقرير صحيفة "نيويورك تايمز" الاعلامي جدلاً في الولايات المتحدة لم تنقشع سحبه بعد وهي إلى ازدياد. التقرير قال باحتمالات تغيير الرئيس الامريكي جورج بوش الابن استراتيجيته المتبعة في العراق المحتل... ومن يومها كان هم الادارة الاميركية هو النفي، وهذا النفي يزيد من وتيرة ذلك الجدل، كما انه لا يخفي البادي عياناً من الارباكات التي تعيشها هذه الادارة جراء تفاقم ورطتها العراقية المستفحلة...

ما هو المهم في هذا التقرير مثار الجدل؟ ولماذا استدعى تقرير إعلامي في صحيفة كل هذا النفي المرتبك من قبل هذه الادارة؟!

انه باختصار، ووفق تقرير الصحيفة، يتمثل في الكشف عن دعوات بدأت هذه المرة من داخل البيت الابيض ذاته للاعلان عن نوع من إنسحاب تدريجي مزمع من العراق... لكن، تجدر الاشارة هنا إلى ان هذا الانسحاب التدريجي المطلوب لا يأتي في سياق انسحاب شامل مفترض من هذا البلد العربي المحتل، وإنما في سياق هدف هو تقليص الخسائر البشرية والمادية للمحتلين، وتجنباً لسبل الهلاك المحيقة بعديد جيش الاحتلال. بمعنى آخر، هو بعض من سبل محاولة الخروج من الورطة العراقية، وليس الخروج من العراق. أو تلمس لسبل بقاءٍ بلا تلك الخسائر أو أقل ما يمكن منها... وهنا، تأتي سيناريوهات القواعد التي سيتم انشاؤها في العراق، أو هي انشئت بالفعل، لكي تتجمع جيوش الغزو فيها، أو استراتيجية الخروج من المدن، وايكال أمر مواجهة المقاومة لقوى محلية جاءت مع الاحتلال أو نشأت في كنفه، أو قوات موالية تم تدريبها وتجهيزها والاشراف على ادائها، ومساعدتها ميدانياً عند الحاجة، من قبل المحتلين...

ومع ان الانسحاب الجاري الحديث عنه يأتي في مثل هذا السياق، فالادارة لا تحتمل عدم نفيه ولم تتلكأ في ذلك، اما ارتباكها فمرده هو ما ذكره تقرير الصحيفة من ان مستشارو الادارة ومسؤوليها يعتريهم القلق من ان ما دعته بـ" الدعامات الاخيرة " للادارة من الجمهوريين في مجلس الشيوخ هي "آخذه في الانهيار"، كما انهم، واضافة إلى ذلك، يخشون المزيد من الانشقاقات المنتظرة داخل الحزب الجمهوري في حال تغيير الاستراتيجية البوشية في العراق.

ستيفن هادلي مستشار الأمن القومي، مثلاً، يذكر التقرير بأنه " قلق للغاية" للاسباب المذكورة آنفا، ويشاركه هذا القلق كارل روف مستشار البيت الابيض للشؤون الاستراتيجية. لاسيما وان القوى داخل الحزب الجمهوري نفسه قد بدأت تتحشد ضد بوش على ضوء استفحال الورطة العراقية وازدياد كلفتها البشرية والمادية. فالمادية، مثلاً، وفق تقرير لصحيفة "نيويورك صن" قد بلغت 450 مليار دولار حتى الآن. اما البشرية فرغم التكتم وعدم نشر الارقام الحقيقية كما هو متبع، فهي إلى ازدياد، ناهيك عن ان بعض التقارير الاميركية تقول بأن البنتاغون قد فشل في تحقيق الرقم المطلوب من المجندين خلال الشهرين المنصرمين.

ما تقدم جعل الادارة الاميركية تبذل جهدها الجهيد في ارجاء النقاش حول المسألة إلى ما بعد منتصف الشهر التاسع القادم، أي موعد رفع قائد قوات الاحتلال الاميركي في العراق الجنرال ديفيد بتراوس تقريره الميداني الذي يشاركه فيه السفير الاميركي، او المندوب السامي الاميركي، في بغداد رايان كروكر. بيد ان تقريراً آخراً، نعني هذا الذي أصدرته الإدارة نهاية الأسبوع المنصرم حول التطورات في العراق، سوف يثير المزيد من وجع الرأس لها، لما سوف يثيره من ردود افعال لا تشتهيها. وحيث كانت تتوقع ما سيثيره سلفاً، وتحسباً لذلك، الغى وزير الحرب روبرت غيتس جولته المزمعة في اميركا اللاتينية للتفرغ لاجتماعات الأعداد للتقرير العتيد. والمعروف ان روبرت غيتس هذا هو مع انسحابات تقلص قوات جيشه المحتل إلى النصف في اكثر المناطق مقاومة للاحتلال في العراق، او حيث تتكبد اكثر الخسائر جراء ضربات المقاومة المتصاعدة. تكفي الاشارة هنا إلى ان ما تدعى المنطقة الخضراء في العاصمة العراقية، أو هذه المنطقة المحصنة حيث تتواجد فيها سفارتي الاحتلال الاميركي والبريطاني وحكومة عراق ما بعد الاحتلال، قد تلقت في الاونة الاخيرة، و في يوم واحد فحسب، فقط 30 قذيفة مورتر وصاروخ وفق بيانات المحتلين انفسهم!

التقرير المشار إليه، الذي وصف بالمرحلي شارك في إعداده مجلس الأمن القومي والبنتاغون والخارجية وقائد جيش الاحتلال في العراق الجنرال بتراوس... حاول أن يلعب دور القاضي والمتهم في آن، واعترف بأن ما دعاه التقدم الذي أحرز في العراق "غير مرض" وأن الصيف العراقي بنذر بـ "قتال عسير". وحيث قيل أنه حاول أن يقدم صورة مبدئية عن مدى التزام حكومة المنطقة الخضراء العراقية بـ 18 هدفاً "إصلاحياً" كشرط لدعم الكونغرس تمويل جيش الاحتلال،أعترف أن ما تحقق من تلك الأهداف لا يعدو الثمانية فحسب، من بينها "تشكيل الأقاليم شبه المستقلة"!!!

وقبل صدوره وبعده، توالي الادارة الاميركية المربكة تكرار نفي تقليص عديد جيشها المحتل للعراق، ووزارة الحرب تقلل من شأن تقرير "النيويورك تايمز" ما استطاعت، والجنرال بتراوس يرجح البقاء في العراق لعقود قادمة، وكروكر آخر ما تفتقت عنه قريحته هو تشبيه ما يجري في العراق بما دعاه التجربة اللبنانية، وعليه، يحذر من الانسحاب المبكر الذي في رأيه سيعيد ذات التجربة في العراق، ويؤكد:

"انني على يقين من ان ما سيحدث هنا يفوق أي تصور" !!!

هذا الفائق للتصور اقله عنده هو " الانهيار الكامل لقوات الامن العراقية" التي انشأها الاحتلال، والتي تفوق الثلاثمائة وخمسين الفاً...إذن الإدارة تشحذ دفاعاتها... وبوش، الذي ارسل حاملة طائرات ثالثة إلى الخليج، يرفض بعناده المعروف دعوات في الكونغرس للانسحاب، مشدداً على ان "مستوى القوات يجب ان يقرره قادتنا في الميدان لا المسؤولون السياسيون في واشنطن"...كرر بوش مقولاته المعروفة، ومنها :" إن الانسحاب المبكر سيكون كارثياً"، واصفاً هذا الانسحاب هذه المرة بـ"المتهور"، وحيث لا زال يؤكد على أن أمريكا قادرة على كسب الحرب، يصر على أنها لن تتراجع قبل تحقيق أهدافها، وعليه فلسوف يستخدم حقه الدستوري في نقض أي قرار من الكونغرس يدعو للانحساب، وسيرسل وزيرة الخارجية الأمريكية ووزير الحرب غيتس إلى بغداد لدعم المالكي!.

...ومع ذلك، جاء اول الغيث ولم يطل الانتظار، فها هو رئيس لجنة القوات المسلحة في الكونغرس كارل ليفن يقترح مشروع قانون يلزم بوش ببدء الانسحاب في غضون 120 يوماً، مع " قصر القوات الباقية على التدريب ومواجهة تنظيم القاعدة وحماية المرافق الاميركية" !.

دخان الجدل الاميركي هذا لايخفي ناراً تزداد اشتعالاً مع الايام تحت قبة الكونغرس، وسيزيدها تقرير بوش المبدئي التهاباً، وتقرير الجنرال والسفير في بغداد بعد قرابة الشهرين لهيباً. كما ان صدى الجدل الذي اثاره تقرير " النيويورك تايمز" بدأ ينعكس على اطراف ما تدعى المسيرة السياسية العراقية تحت الاحتلال تحسباً وهلعاً، فوزير خارجية عراق ما بعد الاحتلال هوشيار زيباري يحذر من "مخاطر الخروج السريع" لجيش الاحتلال من العراق، والتي تتفاوت عنده بين حرب اهلية ، تقسيم، حروب اقليمية، انهيار حكومته، والخلاصة ما دعاه "صيفاً ساخناً "! ويمكن تلمس مثل هذا الكلام عند آخرين من رموز ذات المسيرة، يركزون فيه على ضرورة بقاء المحتلين ويحذرون من ما يدعونه الفراغ الأمني الناجم عن انسحابهم.

في حومة هذا الجدل، وبعيداً عن زبده الذي يذهب اغلبه جفاءً، ما هو التغير الممكن في ما تدعى استراتيجية بوش في العراق، اذا ما اخذنا في الاعتبار لماذا ارسل جيوشه لغزو العراق اصلاً ؟

لن نناقش هنا ذرائع الغزو او ذريعتيه الرئيسيتين اللتين ثبت بطلانها، وهما اسلحة الدمار الشامل، التي لم يعثر عليها، والعلاقة مع القاعدة. التي لم تصل الى بلاد الرافدين ولم تعرفها الا بعد غزو العراق، واللتين استبدلتا بذريعتين سوف يسخر من زيفهما التاريخ طويلاً، أي نشر الحرية والديمقراطية التدميرية تحت حراب الاحتلال، او اقامتها في كنف الفوضى الخلاّقة... لكن، لماذا كان الغزو ؟!

لقد كان في سياق استراتيجية استباقية امبراطوريه على الصعيد الكوني للمحافظين الجدد، هي بهم ومن دونهم ملازمة للجموح الامبراطوري للقوة الاعظم يمكن تلخيصها ما امكن في النقاط التالية:

وضع اليد على هذه المنطقة اوهذه البقعة الجيوسياسية الاستراتيجية الاخطر من العالم بما يضمن التحكم فيه، او استمرار آحادية القطبية الكونية الاميركية اطول آمد ممكن ، حيث من يتحكم في العالم العربي وجواره الاسلامي، او هذه الخارطة الممتدة من اسيا الوسطى وحتى مشارف افريقيا السوداء، يحكم الطوق، او يطل مباشرة، على احتمالات نهوض وطموحات المراكز العظمى الواعدة او القادمة لا محالة مستقبلاً، كالصين، والهند، ولا ننسى روسيا العائدة او الطامحة للعودة الى ايامها العظمى الخوالي. ثم ان وضع اليد على نفط المنطقة يعني وضع اليد على عنق العالم، وما يعنيه ذلك للقوة التي تريد البقاء اطول مدة ممكنة القوة الاعظم في العالم.

ألم يقل بوش في حومة الجدل الذي نحن بصدده أن لا عودة لجيوشه الغازية إلا "بعد نجاحها في تأمين المصالح القومية طويلة الأمد للولايات المتحدة في العراق والمنطقة"؟! ثم الم يقل أيضاً، أن "الصراع في العراق هو جزء من نزاع أوسع ينتشر في أرجاء المنطقة"؟!..

بيد ان للاستراتيجية الاميركية في العراق شقها الآخر الذي قد لا يقل اهمية لدى الغزاة، بغض النظر عمن يقطن البيت الابيض، ونعني الشق الاسرائيلي من هذه الاستراتيجية... انه ليس حماية اسرائيل او الحفاظ على تفوقها فحسب، او هذه المسلمة الاميركية المعتادة، وانما ولذات الهدف وفي خدمته، كان لابد من اخراج العراق كواحدة من رافعتين لاقيامة للأمة العربية بدونهما، باعتبارهما قطبا رحى معادلة النهوض العربي المحتمل... نعني مصر التي اخرجت من معادلة الصراع العربي الصهيوني بعد اتفاقية كامب ديفيد او تم تحييدها، والثانية، العراق الذي تم تدميره او هدم كافة ركائز الدولة فيه... الأمر الذي يعني تثبيت اسرائيل وتحويلها مركزاً اقليمياً قائداً في خدمة الاستراتيجية الاميركية الاسرائيلية الواحدة او المشتركة، تدور من حوله شظاياها، او ما تبقى من تداعيات الفوضى الخلاّقة.

...ما الذي تحقق ؟

حتى الان الشق الاسرائيلي من استراتيجية الغزو يمكن القول انه هو المتحقق... وما تبقى منها يظل تحت طائلة ضربات المقاومة العراقية ومثلها الافغانية... اذن، ما الذي يقوي بوش على تغييره في هذه الاستراتيجية، هذا لو اراد، او استجاب لمناشدة مستشاريه، او ضغوط شيوخ الكونغرس، سوى تلمس سبل تقليص الخسائر البشرية والمادية التي تلحق بالمحتلين... بمعنى الخروج من الورطة العراقية والبقاء في العراق ؟!

لكن للمقاومة العراقية كلمتها... وهنا المشكلة بالنسبة لتقارير بوش وادارته، الاولية والميدانية على السواء، أوهنا بيت القصيد، وحول هذا يدور وسيدور الجدل في واشنطن طيلة بقاء بوش في البيت الابيض وبعد رحيله... لكن مع الملاحظة التالية:

الشق الاسرائيلي في الاستراتيجية التي وصفناها بالمشتركة متوالي الطموح، ولنأخذ مثلاً:

وزير الشؤون الاستراتيجية الاسرائيلي "فيغدور ليبرمان"، عاد من جولة أوروبية تضمنت زيارة لمقر حلف الناتو في بروكسل... عاد محذراً من تقاعس الغرب عن واجب ازالة احتمالات الخطر النووي الايراني على اسرائيل، والذي يعني وجوب اعتماد اسرائيل على نفسها حيال ذلك... أي ان لا خيار عسكري غربي ضد ايران الآن... ليبرمان نقل عن من التقاهم ما يلي:

" نحن عالقون في افغانستان، وقوات اوروبية واميركية تغرق في الوحل العراقي، الأمر الذي سيمنع قادة الدول الاوروبية واميركا من اتخاذ القرار باستخدام القوة العسكرية لتدمير المنشآت النووية الايرانية ".

وعليه يستنتج ليبرمان، ان على اسرائيل ان تعمل وحدها، وهي "ستتلقى المباركة" من هؤلاء العالقين في افغانستان والعراق!

والسؤال، واذا حصلت المباركة، أي كان الاذن لها بإنجاز المهمة التي لم يقومو بها نيابةً عنها، وبالنظر إلى كون اسرائيل الصنيعة والحليف، فمالذي تبدل في استراتيجيتهم اذن ؟!!

لم يأت الامريكان للعراق والمنطقة للخروج منه او منها، ولن يفعلوا الا اذا ارغموا على ذلك... هنا مرد الازمة التي ستشوب وقائع الباقي من ايام بوش في البيت الابيض ... بوش اسير استباقيته، واميركا اسيرة استراتيجياتها الامبراطورية التي لا تمتلك ترف التراجع عنها ، فمن اين له القدرة على تغيير استراتيجيته، او في جوهر الأمر، هل من عودة محتملة عن استراتيجية الولايات المتحدة في العراق... كيف لها الخروج من الورطة العراقية والبقاء هناك؟!

حول هذا يثور الجدل تحت قبة الكونغرس ويتردد صداه في تل ابيب! .