جولة الرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر كانت "موفقة" في إقناعنا بأن السياسة ماتزال تملك خيارات الاختراق للأزمات، فالانتقادات التي تلاحقت باتجاه كارتر أعادت من جديد رسم صورة لنمطية التفكير داخل السياسة الدولية السائدة، وربما لن تستطيع أي وساطة التعامل مع أزمات الشرق أوسطية المتلاحقة، طالما ان هناك "تناقض" متعمد يهوى خلق افتراق سياسي داخل كل دولة في المنطقة.

ربما علينا تذكير جيمي كارتر بأنه كان مسؤولا بشكل مباشر عن وضع الخطوة الأولى في "الاختناق السياسي الحادث اليوم، لكن مساعيه اليوم هي موضوع آخر يتعلق بنا وليس فقط بالجهود السياسية الدولية، فالمسألة الإنسانية التي يريد معالجتها جيمي كارتر في عمقها مرتبطة بالثمن الديمقراطي الباهظ الذي نشاهده داخل الحياة اليومية لمدينة غزة، وهو الثمن الذي يدفعه المجتمع تعويضا عن خياراته بعد أن اعتقدنا لزمن أن حق الاختيار هو الأزمة أو الاتهام الذي يصفعنا يوميا... لكن المشكلة الديمقراطية كما تبدو تتعدى واقعا خاصا يفترضه البعض داخل أي كيان جغرافي، وهي كما تظهر في غزة طيفا جديدا يحتاج إلى لون من الحياة قادر على الدفاع عن نفسه حتى يصبح الخيار الديمقراطي حقيقيا.

ما يحدث في غزة ليس محاربة دولية لنتائج الديمقراطية أو حتى لحركة حماس، لأنه بقد ما يعكس آلية سياسية فإنه يقدم أيضا صرامة عقلية في التفكير داخل الخيارات التي تملكها المجتمعات، فهو صورة واضحة للقفز على كافة الاعتبارات والتمسك بالأشكال التقليدية لما تعنيه السياسة في القرن الجديد، فعندما نجد أنفسنا في مأزق العنف الذي تمارسه إسرائيل لا بد لنا من ان نواجهها بالديمقراطية، لكنها ديمقراطية تبدأ بالتفكير قبل أن تسارع إلى الاقتتال على الإجراء السياسي. وديمقراطية تعرف أن الحياة السياسية اليوم يجب أن تبنى على المعرفة قبل أن ندخل في مواجهة صناديق الاقتراع، والأهم أنها ديمقراطية تستند لواقع جغرافي واضح وليس للاجتزاء والتعامل مع إجراءات سياسية فقط.

ومع ما يحدث في غزة والعراق لم يعد مطلوبا التأكيد على "الضرورة الديمقراطية" التي تذهب الإدارة الأمريكية للدفاع عنها بشكل مطلق في لبنان والعراق وفلسطين .. سواء جاءت التأكيدات عبر المشاريع السياسية الأمريكية للمنطقة، أو من خلال التشكيلات الإقليمية المدنية او الرسمية .. فالسؤال حول الديمقراطية خرج عن نطاقه الأكاديمي الأساسي، وحتى عن السوية المعرفية بعد أن أصبح الخيار ضمن فئتين: الأول اللبرالية وفق المنطق الأمريكي، والثاني الجهاد وفق أسلوب السيارات المفخخة.

إن السؤال الأساسي الذي يحمله جيمي كارتر إلى المنطقة يرتبط باختراق الأزمة، ولكنه يحتاج لعمق خاص بعد التجربة التي عاشتها المنطقة، فمباحثاته تفتح عددا من الأسئلة تتجاوز "محاسبة المرحلة" لأنها تعيدنا إلى أنفسنا لنعالج "حروب الديمقراطية" المستمرة ونسأل: هل بالفعل لا نملك أي خيار ديمقراطي؟ وأننا نقف ضمن التوجه الذي يحدد حتى طبيعة التنوع الذي يجب أن نملكه، وأشكال الخوف التي علينا أن نحاربها، وأن ننسف كل الذاكرة التي تشكلت خلال نصف قرن من الزمن.

التجربة الديمقراطية تبدو اليوم أنها أكثر من مجرد ممارسة سياسية ... فهي تعبير عن جملة الأزمات المتراكمة داخل الثقافة والمجتمع ... وتحتاج لإبداع حتى نخرجها من مأزق الخيارات .. وترتبط بتفكير حداثي حتى لا يصبح ثمنها أغلى من الأرواح والدم الذي يهدره أنصار الجهاد أو "طلائع الديمقراطية الأمريكية".