بالطبع فإنها مسألة سيادية مصرية، هذا إذا بقي من مصطلح "السيادة" أي معنى وطني وسط نظام دولي كان همه الأساسي خرق السيادة أو تعويم مفهومها، لكن مفهوم الحدود هو الذي يدخل اليوم محطة جديدة معاكسة لكل الأفكار التي طرحت في النصف الثاني من القرن العشرين، وفي نفس الوقت فإنها معاكسة لحركة التاريخ الأساسية قديما وحديثا، وهذا الموضوع ليس "إنشائي" أو تفرضه دوافع "إنسانية"، لأن "الجدران" سواء كانت فوق الأرض أو تحتها تعكس ثقافة خاصة، وربما تمثل انتقاما من التكوين التاريخي لما كان يسمى في أدبياتنا "العالم العربي" أو "الوطن العربي".

المسألة تحتاج بالفعل إلى قراءة بشكل مختلف لأنها تعيد تصوير الحدود من نقاط التقاء، إلى مساحات قطيعة، وهو شأن معاكس لثقافة المنطقة، ويمكن اعتباره نتيجة موضوعية لحالة التطرف والعنصرية التي ظهرت مع "تأسيس إسرائيل"، ولكن الخطورة اليوم هي في الانتقال إلى السياسة عبر أمرن:

الأول تأسيس السيادة الوطنية وفق واقع "الأمن الإسرائيلي"، فمصر من حقها أن تفعل ما تريد بحدودها، وما يحدث اليوم هو استخدام هذا الحق لضمان هذا الأمن" المرتبط بدولة اعتداء، فيظهر التصرف على الحدود وكأنه امتداد لجدار الفصل الذي أقامته إسرائيل، أو كأنه جزء منه ومرتبط "عضويا" به. فهل هناك من خطورة في تكريس سيادتنا وفق علاقتها مع "الأمن الإسرائيلي"؟ هو سؤال كان جوابه بديهيا وسريعا، ولكنه اليوم ربما يحتاج لمطولات في مسألة "الواقعية السياسية" وفي مفاهيم السلام والاتفاقيات المعقودة مع "إسرائيل"، وبالطبع فإن مراجعة أحداث عام كامل ربما تنسف هذه المطولات ابتداء من استمرار الاحتلال أو تهويد القدس أو غيرها، فالسيادة الوطنية ليست مفهوما متبدلا مع متطلبات "الأمن الإسرائيلي"، ولا نعرف مستقبلا هل ستتطلب هذه السيادة تحولا في ثقافتنا على شاكلة ما طُرح في مشروع "الشرق الأوسط الكبير"!!!!

الثاني محاولة برسم العلاقة إقليميا، فالجدران العازلة على الحدود ستشكل لاحقا عنوانا للعلاقات الشرق أوسطية القائمة على التنافر والشك، وعلينا التذكر أيضا أن مثل هذه الثقافة انتشرت مباشرة بعد احتلال العراق، فظهرت مشاريع لتحصين بغداد عبر "جدار" ولتقوية حدوده من خلال جدران في الجنوب والشرق، وحتى بين سورية ولبنان تم اقتراح نشر أجهزة مراقبة، بينما تتولى قوات اليونفيل الرقابة من البحر.

مهما كانت مبررات إنشاء الجدار العازل فإنها في النهاية توضح "الأفق المعزول" بمتاريس وأسمنت وألواح الفولاذ أما السياسة القائمة اليوم في الشرق الأوسط، وهي ملمح أساسي لفشل السياسة وحتى لفشل "الدولة" التي تريد أن تظهر وهي محاطة بأسوار عازلة لأنها غير قادرة على "التفاعل" مع محيطها، فهل هناك أي أمل لـ"حل الدولتين"!