الكاتب : ربى الحصري

هناك ما يحدث في المدن العربية يصعب تفسيره فقط بالحماس للديمقراطية، فهذا الحماس هو أحد العوامل التي تشكل على ما يبدو مع أمور أخرى "حزمة" تحتاج إلى إعادة نظر، لأننا على ما يبدو كباحثين اجتماعيين حاولنا ومن بعيد قراءة مجتمعاتنا وفق ظواهر محددة، بينما اتجهت الدراسات داخل العالم العربي لقراءة الأجيال الجديدة وفق توجهات خاصة، أو لأغراض اقتصادية بالدرجة الأولى، وأحيانا لفتح أسواق جديدة وابتداع "منتجات" للشباب.

المتظاهرون الذي ساروا في شوارع تونس ومصر أغلبهم ممن ولدوا بعد عام 1980، وهم ممن تلقوا مناهج تعليمية في ظل واقع العولمة، أما من لم يحظ بفرص العلم فهو عاش نتائج واقع العولمة على دول العالم الثالث، وهذه الأجيال أيضا لم تعاصر رموزا وطنية بل على العكس فإنها عاشت في زمن "فرض الرموز" بالقوة، لكن الأخطر أن هذه الأجيال كانت محشورة في بيئة مأزومة لكنها تملك نافذة على العالم عبر الإنترنيت، فهي لم تتعرف على العالم الآخر من خلال الصور الجميلة، أو الروايات والأحلام الوردية بل تعاملت بشكل مباشر من خلال الساحة التفاعلية للإنترنيت مع العالم وكانت ترى أيضا صورة واقعها وفق وعي مقارن.

بالتأكيد فإن هذه الأجيال الشابة كانت تتميز بالتواجد وسط حالة وصاية مزدوجة: الأولى هي "نمذجة" الفساد من خلال إحاطته بأبعاد ثقافية، وهو ما أدى لظهور "نجوم اجتماعيين" كان من المفترض أن يعوضوا عن غياب "نجوم" الوطنية، فنمذجة الفساد قدمت استنساخا لكافة الإنتاج الثقافي في العالم، ابتداء من رسم صورة السياسي والاقتصادي وانتهاء بصور الفنانين الذين أصبحوا ظاهرة تفرض نفسها على الجميع.

الوصاية الثانية حملتها كافة أشكال المعارضة من أحزاب سياسية أو شخصيات عامة احتلت الفضائيات في عصر تم فيه اكتساح المجتمعات بالبرامج الحوارية والتغطيات الإخبارية، ومشكلة هذه الوصاية ليست في انتمائها إلى زمن سابق بل أيضا في محاولة تجاوزها لممكنات الأجيال الجديدة التي امتلكت وسائل متعددة للرؤية والبحث وحتى للاستمتاع بحياتها مختلفة تماما عما امتلكته البُني السياسية التقليدية أو حتى رموزها.

ما حدث أن الجميع كانوا ضحايا "نمذجة الفساد" وتجاوز ممكنات الأجيال الجديدة، لكن المفارقة الحقيقية أن الشباب أنفسهم هم "الناجون" من هذه العملية الطويلة، فهم استطاعوا امتلاك أدوات معرفية لم نختبرها بعد، فطريقة تعاملهم في مدوناتهم ونوعية الخطاب الذي يملكونه سيبدو للوهلة الأولى حالة من البقاء على سطح المجتمع دون الغوص في عمق ما يجري، فهل كنا كخبراء أو باحثين اجتماعيين مخطئين في تقديراتنا؟
سأترك هذا السؤال للزمن، لكنني استطيع الاعتراف أننا نملك أيضا "نمطية" في قراءة الظواهر حتى ولو كانت هذه النمطية أكاديمية تعتمد على أساليب البحث العلمي، كما أننا اتجهنا لقراءة الأجيال الجديدة وفق الاتجاهات العالمية المفروضة سواء في مسألة "الموجة الثالثة" أو في تأثير العولمة على بنية المجتمعات، واكتفينا أيضا في بحث خصوصيتنا انطلاقا من احتياجات التنمية الاقتصادية فقط، وهي تنمية غير مستقلة لأنها تتبع حركة الأسواق العالمية وليس مصلحة مجتمعاتنا.

نشهد اليوم حالة مربكة نتيجة اضطرابات مختلفة داخل العالم العربي، فمن البحرين إلى اليمن وليبيا والجزائر، وحتى العراق وهو تحت الاحتلال لم يسلم من الاحتجاجات، وهذا الحراك لا نستطيع النظر إليه وكأنه حالات متفرقة لأن الأجيال العربية في النهاية خضعت لنفس الظروف رغم بعض التفاوت من مجتمع لآخر، والسؤال الجديد هل سنقرأ ما يحدث من جديد؟ الأمر اليوم تجاوز القراءة لأنه يولد آليات تتسارع ولكن علينا أن ننظر للمشهد العربي ونحاول بناء ثقة مختلفة مع الأجيال الجديدة.