يحيط المشهد العراقي نقاش حاد. فمن قاطع بأن العد العكسي قد بدأ للاحتلال الاميركي. ومن قائل بأن هزيمته ضرب من الخيال! ولعل هذا التباين يغري بوقفة تأمل قبل الدخول في الجوهر. لانه يشدنا الى نمط في التفكير عند بعض النخب او اصحاب الرأي.

الكارهون لأميركا يقاربون تعثرها من وحي تجربة فيتنام مع اغفال التوازنات التي احاطت بتلك الحرب يوم كانت اميركا احد قطبين كبيرين وليست الوحيدة الآن.

اما المفتتنون بأميركا ــ بالوعي او باللاوعي! ــ فيعتقدون بأن تفوقها “حصن حصين” يقيها الهزائم ويجعلها من نصيب اعدائها.

انه نمط عقلي يكرر نفسه بمعزل عن الاشياء والزمن والحركة والصيرورة. فهو في خياراته الاسلامية يذهب الى السلفية. وفي خياراته الماركسية يصبح ارثوذكسياً متزمتاً. وفي خياراته الليبرالية يتكرر بالكيفية بنغاتيف آخر تبدو فيه واشنطن بنظر البعض بما يذكرنا بعصمة موسكو عند الشوعيين العرب في ما مضى من زمن!

لتقدير تداعيات الوضع العراقي يحتاج المراقب الى انتخاب مسافة لا تضيع معها وقائعه عن البصر من جهة كما لا تطغى هذه الوقائع من جهة اخرى على مساحة الرؤية بحيث لا تبصر ما حولها، وتأثيرها، وموقعها في بانوراما الستراتيجيا الأميركية. فلا يأخذنا الحال الى التصور بأن خسائر اميركية في العراق ــ بل حتى هزيمتها ــ سيثنيها عن خوض حربها “ضد الارهاب”. وهذا الاخير ليس الا عنواناً ــ “اخلاقي” ــ لمضمون مختلف يمكن اختزاله بأنها النزعة الامبراطورية للامساك بعالم يخلو من منافس او قطب ثان! كما لا يجوز ان نقلل من نتائج الممانعة بالمقاومة العراقية التي صدمت اميركا الى ما قد يؤدي ببوش لكي يدفع الثمن. وهو احتمال غير مستبعد مع رئيس متوسط الذكاء، قليل الموهبة، غير مؤهل على حمل “الحلم الامبراطوري الاميركي” الى ابعد من عربة مدرعة!!

واستطراداً فان المتوقع بأن اميركا والأرجح بعد بوش ستستعيد خططها وأساليبها. وربما تعيد النظر ببعض خياراتها التكتيكية. ولكن من غير التنازل عن الهدف الستراتيجي المذكور. الا اذا برزت قوة معادلة بالكم، وهذا ما زال مستبعداً في المدى المتوسط على الاقل.

غير ان تصوراً اميركياً للمستقبل ــ باعتبار ان العرب يعيشون الحاضر فقط - لا بد وان ينطلق من اخطر نتيجة خلفها الغزو الاميركي للعراق واسقاط نظامه السابق، وهو الغاء عناصر اساسية في معادلة التوازن الاقليمي من غير تصور للبدائل. ما يجعل الوجود الاميركي تعويضاً عنها وبالتالي جزءاً من معادلة التوازن التي باتت حرجة ومفتوحة على اشكال او تشكيلات عدة.

لعل هذه المقدمة الطويلة من الضرورة حتى يتمثل البعض بأن الوجود الأميركي في المنطقة ينتقل من حالة الاشتباك معها الى مرحلة التداخل بها. ما يجعل مراهنة هذا البعض على هزيمة اميركا، بالاعتماد على عامل الوقت، خطأ جوهريا. واخشى ان تكون سورية من اولئك المترقبين لنهاية “العد العكسي” للاحتلال الاميركي للعراق شاغلة الوقت الضائع بمغازلة المتطلبات الاميركية. اما بمنع التسلل الى العراق او باصطياد بعض جماعات النظام السابق بأحيان اخرى ومن دون النظر في تأثيراتها السلبية، كما سنبين لاحقاً. وكما سيظهر بأن الوقت الضائع هو بالحقيقة جري وراء السراب.

من المهم ان نضع بعين الاعتبار بأن انكفاء اميركياً عن العراق يعني فراغاً تملؤه ايران حتى الحدود مع سورية. لا سيما وانها الآن ــ اي ايران ــ في قلب بغداد عملياً من خلال اصدقائها او حلفائها الذين يحتلون مواقع السلطة. وهذا بالتأكيد يستثير قلقاً لدى الادارة الاميركية ما يجعل جماعة منها تطرح سلفاً اسقاط النظام السوري كضرورة لمنع قيام “قوس شيعي” إذا ما فكرت اميركا بالانسحاب جدياً من العراق. متذكرين بأن هذا القوس انما يعني باللغة الستراتيجية اقتراب ايران الاسلامية بقوتها الضاربة من حدود اسرائيل.

لذلك فان البديل ولو بـ“الفوضى”، قد يصبح مطلوباً لمنع هذا القوس، بل لعل هذه الفوضى مطلوبة اسرائيلياً لما قد تخلفه من انبثاقات اثنية. ربما جاري اعداد “بروفة” لبنانية كلها بالكونفدرالية الطائفية التي عاد طرحها بأصوات مسموعة.

على ضوء ما سبق ليس مستبعداً ان تكون اسرائيل معنية ــ بالمصلحة ــ في انكفاء اميركي عن العراق اذا كان بديله انفتاح الساحة امامها من لبنان حتى “كردستان” العراق.

ما يجعل من احتمال وجود اصابع لها في دورة العنف داخل العراق شكاً بمكانه. والمقصود هنا ذلك العنف الذي يمكن وصفه بالمقاومة. بل ارهاباً وتخريباً موصوفاً عندما يستهدف المدنيين او او رجال الدين اصطياداً للعصبيات المذهبية.

ولعل المصلحة الاسرائيلية هذه تتقاطع مع مصالح كردية في العراق تعتقد بأن بيئة غير مناسبة لأميركا في الوسط والجنوب العراقي سيطرح دوراً منفصلاً مميزاً للاقليم الكردي كبديل وحيد، ما يعزز من فرص انفصاله عندما يصبح بحكم الامر الواقع محمية اميركية وقاعدة امنه لقواتها.

هذه اللوحة البانورامية مرشحة لاشكال سريالية مع وجود الحلقة المفرغة بين اميركا وسورية، لذلك لا بد من موازنة تداعياتها بجهد سياسي يفضي الى مخرج ما يوقف على الاقل كرة الثلج المتدحرجة. وعندئذ يصبح الوقت لعبة مفيدة. وهذا الجهد لا بد لسورية ان تخترعه من معطيات واوراق بين يديها تؤهلها لادارة حوار بين السلطة العراقية الحالية ــ وهي وطنية بلا شك ــ وبين عدة اطياف سنية مقاومة، من بعثية وقومية واسلامية. لكن هذه الامكانية السورية مهددة بالضياع اذا انصرفت لمجاراة الهاجس الامني في الجانب الاميركي، ما سيفقدها مصداقيتها امام الاطياف المذكورة. وهذا شرط اساس لادارة حوار بات مطلوباً من السلطة العراقية واميركا.

ويفترض بأن تحجز سورية دوراً بارزاً فيه وليس كما تريدها ضغطاً تسخره لتحسين موقفها في مسعاها الحواري مع سنة العراق.

فضلاً عما سبق، فان الدور المذكور ينسجم مع المزاج العام للداخل السوري. الذي هو احوج لتكتيك كشرط من شروط المواجهة، بل ولعبة الموت التي يجب ان تبصر اميركا اثمانها مع امكان قيام "قوس سني" مقاوم لها يبدأ من البحر المتوسط غرباً وحتى بغداد شرقاً.

الأمر الذي يطرح الاصلاحات الديمقراطية في الداخل السوري كمسألة ذات اولوية ولهذا حديث آخر له شؤون وشجون.

مصادر
صدى البلد (لبنان)