الخطوات الاسرائيلية أحادية الجانب في قطاع غزة والضفة تضع الفلسطينيين على مفترق طرق بصدد طريقة تحقيق أهدافهم الوطنية. اخلاء المستوطنات في ظل الهدوء النسبي والتعاون الأمني مع اسرائيل، بعثا الآمال في نفوس القيادة الفلسطينية في كل ما يتعلق باحتمالات التوصل الى الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي بواسطة المساعدات الدولية، واجراء انتخابات للمجلس التشريعي في شهر كانون الثاني 2006، وأخيرا استئناف العملية السياسية حسب خريطة الطريق.

كل هذا يتم في سياق مواجهة التحديات الصعبة التي يطرحها التيار الاسلامي الديني الذي يوطد مواقعه في الضفة والقطاع باستمرار، ومجموع القوى المحلية المسلحة، من بينها "كتائب شهداء الاقصى" التابعة لـ"فتح"، التي ظهرت في الانتفاضة وشاركت في جزء من الصراع ضد اسرائيل وتطالب السلطة الآن بالاعتراف بمكانتها وإسهامها في الكفاح الوطني.

ولكن، الى جانب هذه الآمال تنبعث مخاوف قوية في صفوف القيادة والجمهور الفلسطيني من مرحلة ما بعد فك الارتباط. الخوف الأساسي هو أن يكون فك الارتباط قد فرض سابقة لتحقيق المصالح الاسرائيلية من جانب واحد وبدعم دولي، بينما تمارس في المقابل ضغوط متزايدة على الفلسطينيين لوضع سلاحهم والتخلي عنه والتوقف عن مقاومتهم للاحتلال والتركيز على الاصلاحات والبرامج التنموية. في ضوء خطوات اسرائيل أحادية الجانب في الضفة تتزايد الاصوات في الشارع الفلسطيني وفي القيادة داعية السلطة الى تبني جدول اعمال وطني واحد ورص الصفوف من اجل خوض معركة الضفة الغربية.

أبو مازن وأبو العلاء كانا بحاجة لتصفية موسى عرفات، قائد الاستخبارات العسكرية سابقا، حتى يُقدرا التحدي الماثل أمامهما والمتمثل في فرض حكمهما وسيطرتهما على القطاع. هنا يدركان منذ مدة أن فقدان السيطرة على القطاع سيُقرب من نهايتهما لأن ذلك سيؤدي الى نشوء مراكز سيطرة مستقلة وسيجري صراع محلي بين التنظيم و"حماس" وباقي القوى وبين اجهزة السلطة الأمنية المختلفة حول السيطرة على مقاليد الأمور. الفوضى التي ستبقى في القطاع ستنتشر حتى الضفة وتزيد من خطر اندلاع المجابهة مع اسرائيل مُجددا. لذلك، يتوجب عليهما أن يضمنا القدرة على بناء مركز حكم قوي في القطاع بحيث يكون قادرا على تطبيق سياسة السلطة في الساحتين الداخلية والخارجية ودفع الخطط والمشاريع التنموية. هذا التطور سيغير الرأي العام الدولي الذي سيرى في السلطة شريكا جديرا يتوجب التقدم معه نحو مفاوضات التسوية الدائمة.

قيادة السلطة تداولت بمساعدة مصر مع الفصائل الفلسطينية المختلفة حتى تتوصل الى إجماع بصدد طريقة ادارة القطاع. هي تطمح لمنح المعارضة شعورا بالشراكة في عملية صنع القرار كما يليق بمن قدم التضحيات في الكفاح الوطني التحرري. قادة "حماس" من جانبهم يعبرون عن استعدادهم ولا يستبعدون الانضمام لجسم اداري - طالما أنه لم يكن تحت مظلة اوسلو غير المشروعة. كما أنهم ينظرون بالايجاب لوقف اطلاق النار مع اسرائيل شريطة أن يكون متبادلا ويُلزم اسرائيل بالامتناع عن العمليات العسكرية في المناطق الفلسطينية وايقاف عمليات الاغتيال، "القتل المستهدف".

موقف أطراف المعارضة الفلسطينية المعلن هو أن السلاح الموجود بحوزتهم هو "سلاح المقاومة" ولا مجال لجمعه أو مصادرته. قادة "حماس" و"الجهاد الاسلامي" يدعون أن هذا السلاح ضروري للدفاع عن النفس ضد الهجمات العسكرية الاسرائيلية، أو من اجل الحفاظ على حق المقاومة الشعبية طالما بقي الاحتلال قائما في الضفة والقطاع، خصوصا بعد أن تبرهن أنه أسهم إسهاما هاما وملموسا في طرد اسرائيل من القطاع. هم يستمدون التشجيع من تمسك بعض أطراف فتح بهذا الرأي ويعبرون عن استعدادهم لقبول بعض القيود مثل إخفاء السلاح وعدم إشهاره في الشوارع واستخدامه في اطار الكفاح ضد الاحتلال فقط.

موقف السلطة الرسمي هو عدم السماح بوجود فصائل مسلحة في المناطق التي انسحبت منها اسرائيل، وقد صرحت بأنها مستعدة لاستيعابهم في اطار أجهزتها الأمنية. مع ذلك لا يرغب أبو مازن بالتصادم المباشر مع الفصائل المختلفة، وانما بلورة رأي عام مناهض لعملياتها من خلال خلق أجواء ايجابية تكون مكونة من احتمالية فعلية وعملية للتقدم السياسي والتحسين الملموس في ظروف حياة السكان.
أبو مازن لا يستطيع ايضا قبول موقف اسرائيل الداعي لمنع "حماس" من المشاركة في الانتخابات التشريعية طالما لم تُسلم سلاحها ولم تتنازل عن الكفاح المسلح. إشراك "حماس" في ادارة القطاع، حسب رؤية أبو مازن، ومشاركتها في الانتخابات سيؤديان في نهاية المطاف الى الاعتدال المطلوب في مواقف هذه الحركة المتجذرة في صفوف الشعب، وليست هناك امكانية فعلية لمنعها من المشاركة في الانتخابات العامة والفوز بالتمثيل السياسي.

مراكز القوة المختلفة في الساحة الفلسطينية ترى في مساعي اسرائيل لمواصلة البناء في المستوطنات في الضفة دليلا على تجاهلها للقيادة الفلسطينية المعتدلة. خوفهم هو أن تتمكن اسرائيل من احباط اقامة الدولة الفلسطينية القابلة للوجود وإرغامهم على اقامة كيان مقلص ومن دون القدس. من هنا يأتي مطلبهم بطرح الكفاح حول مصير الضفة قبل معركة "الجهاد الأكبر" التي يقترحها أبو مازن ومركزها الاصلاحات وخطط التنمية الاقتصادية والاجتماعية.
هذا المطلب يتمتع بدعم متزايد من قبل التيار الوطني العلماني والمثقفين والسياسيين، وهو ينعكس في المقالات الصحافية حيث تُوجه النداءات للقيادة الفلسطينية لتشويش وعرقلة مساعي اسرائيل. أطراف المعارضة تعتقد أن الطريق الصحيح هو شن مقاومة مسلحة في الضفة الى أن يتم طرد الاحتلال، ويصرحون عن عزمهم الرد على العمليات العسكرية في الضفة من خلال اطلاق النار من القطاع.
القيادة الفلسطينية تخشى من سقوطها في المصيدة في ظل افتقادها للقدرة على تلبية توقعات الرأي العام: الاستمرار في تطبيق خطط اسرائيل أحادية الجانب في الضفة وانعدام الأمل باستئناف المفاوضات، الامر الذي يبلور الفراغ الذي تتجدد في اطاره اعمال العنف. في ظل هذه الشروط لن تكون هناك فرصة حقيقية تكبح جماح أطراف المعارضة والمجموعات المسلحة. من الناحية الاخرى اذا حدث هبوط ملموس على العمليات إثر فك الارتباط والجدار، فسيقلل ذلك من تسرع اسرائيل والعالم في ايجاد حل للمشكلة الفلسطينية غير المُلحة. على هذه الخلفية شرعت القيادة الفلسطينية بحملة توعية اعلامية لاقناع الأسرة الدولية بأن الانسحاب من غزة لن يُنهي دائرة العنف اذا لم يترافق مع ايقاف المشاريع الاسرائيلية أحادية الجانب واستئناف عملية السلام.

نهج أبو مازن السياسي البراغماتي واستعداده للتراجع عن طريق العنف والاعتماد الذي أعطته إياه الأسرة الدولية توفر له قدرة احتياطية على التأثير ايجابيا على المجريات الثلاثة التي نشأت في المجتمع الفلسطيني في عهد ما بعد عرفات، وقد تكون علامة فارقة على طريق تغيير شروط التهدئة الطويلة والعودة للعملية السياسية.
العملية الاولى هي استئناف عمليات بناء الدولة والمجتمع نحو اقامة دولة سيادية بالاتفاق. والثانية إعادة اصلاح فتح ايديولوجيا وتنظيميا في ظل تعزز قوة "حماس" كحركة وطنية ريادية. والثالثة تمثيل "حماس" في الجهاز السلطوي كمعارضة سياسية.

مع ذلك، فان عجز أبو مازن في منع استمرار البناء في المستوطنات واستكمال الجدار الفاصل رغم قرار محكمة لاهاي وعدم قدرته على البرهنة للناس أن هناك احتمالية معقولة لاستئناف العملية السياسية يقيدان قدرته على ترجمة سياسته وتجسيدها. وفي ظل هذه الحالة سيحاول هو وقيادته أن يُحملوا اسرائيل المسؤولية عن تضييع انجازات فك الارتباط مدعين انهم لا يستطيعون منع الانتفاضة القادمة التي سيشنها السكان "المحبوسون" في القطاع ومناطق الضفة المحتلة.

مصادر
هآرتس (الدولة العبرية)