عزمي بشارة/الخليج

كان من شأن الفوضى الحزبية الجارية في “إسرائيل” ان تقوض أعتى الأنظمة وأعرق الديمقراطيات. الاحزاب الكبرى تحولت منذ فترة الى احزاب متوسطة الحجم وقامت احزاب طائفية الطابع وأخرى دينية وعلمانية يجمعها جميعاً انها مثل الحركات المطلبية وحركات الاحتجاج تقوم على قضية واحدة أو اثنتين وليس على برنامج. أما عن انشقاق أحزاب وإعادة توحيد أخرى انشقت سابقا فحدث ولا حرج، ولا جدوى من المتابعة فالنفس ينقطع بعد ملاحقة ثلاث دورات برلمانية.

وسوف تشهد الانتخابات البرلمانية المقبلة ظاهرة جديدة وهي انشقاق حزب السلطة الحاكم وتغير الخارطة الحزبية بشكل راديكالي. ولا معنى للاختصاص والخبرة في هذا الموضوع فالخبرة والاختصاص يتضاءلان أمام مهمة تشخيص الدوافع الفردية لهذا السياسي أو ذاك الذي يقرر ان يترك حزبه ويلحق بحزب آخر لكي يضمن تمثيله في نادي ال120 ذي العضوية الحصرية.

ولا شك أن التغيرات الحزبية “الإسرائيلية” الجارية والهزات التي تتعرض لها البنية الحزبية هي أيضا تعبير عن حالة انحلال ترافقها ظواهر فساد وإفساد، وليست بالتأكيد مجرد تعبير عن خلاف سياسي. ولا أخفي عن القارئ أن من يعرف الشأن “الإسرائيلي” ولديه فكرة عن تاريخ الديمقراطية أو لديه ثقافة سياسية بالحد الأدنى قد يتعرض إزاء هذه الفوضى والانحلال في الخارطة الحزبية “الاسرائيلية” إلى شعور ينتابه مفاده أنه إما أن هؤلاء يعيشون وحدهم في العالم لا شيء من حولهم يهددهم ولا يحسبون حساباً لشيء، “يأخذون راحتهم” تماما، ويتركون حبل الفوضى الحزبية والصراع على المناصب وتنقل نواب منتخبين من حزب لآخر من دون ضابط أو رادع على غاربه، وإما أن هذه في النهاية قبيلة، والصراع لا يدور في إطار نظام ديمقراطي من أي نوع وأن الخلافات داخل العائلة، خلافات حب وكره لا تعرف قواعد ولا حدود، ولكنها تبقى خلافات داخل عائلة تحميها حدود القبيلة، أو الاثنان معاً.

وآخر التقليعات أن شارون لم يكتف بشق حزبه بل يحاول أن يقنع نوابا بالانضمام اليه لكي يشكل ثلث النواب حدا أدنى لنيل موافقة الكنيست على انشقاق وتشكيل كتلة والحصول على تمويل بموجب قانون تمويل الأحزاب. فكيف يقنع هؤلاء النواب؟ إنه يقنعهم بواسطة تعيينهم وزراء. وكيف يعين وزراء بمعارضة ما لا يقل عن مائة من مائة وعشرين نائباً في البرلمان؟ بواسطة الالتفاف على حل الكنيست ذاته وعلى حالة الحكومة الانتقالية، بواسطة تقديم استقالته وتخويله بتعيين من يشاء من أعضاء الكنيست كوزراء... وهكذا. لا حدود للبهلوانيات البرلمانية التي يجعلها وزنه الثقيل أكثر غرابة. ولذلك نخشى من كثرة التفاصيل أن تضيع الصورة أو من كثرة الأشجار ألا نرى الغابة.

في الحالتين لا يجوز ان يفسر ما يجري على انه انقلاب سياسي أو يؤدي الى انقلاب سياسي. بل بالعكس تماما، فما يجري هو اصطفاف حزبي جديد بهدف تمتين مواقف سياسية قائمة وليس تغييرها. ولن تسفر هذه التغييرات الحزبية برأينا عن تغيير في السياسات “الإسرائيلية” خاصة في ما يتعلق بالسياسة الخارجية. نكرر: ما يجري هو إعادة اصطفاف حزبي لمواقف قائمة. وهذا بحد ذاته ليس قليلا.

لقد طرأ التغير السياسي الجذري على مواقف اليمين “الإسرائيلي” بشأن حل القضية الفلسطينية ومسألة المناطق المحتلة عام 1967 بعد الانتفاضتين الأولى والثانية بأن باتت غالبية اليمين تقبل نموذج الانفصال عن الفلسطينيين ديمغرافيا، وذلك بتقبل إقامة كيان سياسي فلسطيني على أصغر رقعة ممكنة من الأرض، حتى لو سمي دولة. وبقي الخلاف مع اليسار الصهيوني يدور حول مساحة هذه الرقعة من الأرض، وحول تقديره لمدى الاستعداد الفلسطيني للقبول بصفقة من هذا النوع بما يترتب عليه هذا القبول من التزامات أمنية تميز دولة ولو كانت تقوم على جزء صغير من الأراضي المحتلة عام 67.

فاليسار الصهيوني يعتقد ان القيادة الفلسطينية جاهزة لقبول مثل هذا النموذج للحل، واذا لم تكن جاهزة يجب ان يتم إقناعها بمزيج من توسيع رقعة أرض الكيان الفلسطيني قليلا من دون أن تصل الى حدود الرابع من يونيو/ حزيران، وبالضغط الدولي والعربي وبالدعم المالي الموجه لخلق مصالح وأصحاب مصالح معنيين بمثل هذه الحل. أما اليمين “الإسرائيلي” فيرى أن القيادة الفلسطينية لم “تنضج” بعد لقبوله، ويجب إنضاجها على نار الضغط والقمع والحصار.

لم يحصل هذا التحول بفضل الديناميكية “الاسرائيلية” الداخلية بل بفعل الانتفاضة الأولى، وبفضل استعداد منظمة التحرير بعد الحرب في لبنان الدخول في صفقة مع “اسرائيل” ما زال الصراع جارياً على شروطها. ولكنه تحول قد وقع وانتهى الأمر، وليس هذا ما يحصل الآن. بالعكس ما يجري هو تأسيس حزب لهذا التحول هو الحزب الذي يؤسسه شارون حالياً بانشقاق من الليكود وهو يقوم بذلك للأسباب التالية:

- لكي يحرر يديه من قوى في الليكود لم تصل الى هذه القناعات بعد، أو وصلت إليها ولكنها لم تشاركه تكتيكه السياسي، خاصة عندما تعلق الأمر بانسحاب دون اتفاق من قطاع غزة.

- من اجل التخلص من منافسين على قيادة الحزب يؤدلجون صراعهم الحزبي معه.

- للتخلص من الفجوة الكبيرة بين ما يفرضه التفاهم مع الادارة الامريكية من حاجة الى المناورة السياسية وما تفرضه الحاجات الحزبية وغيره من مساومات وصفقات وخطوات تنظيمية إجرائية في مركز حزب الليكود. هذه حالة كلاسيكية لرغبة زعيم سياسي بالتخلص من القيود الحزبية البيروقراطية والديمقراطية في آن.

ولكن شارون يؤكد ويجب أن تؤخذ تأكيداته بجدية أنه لن يقوم بأي عمل من شأنه أن يفسر كانسحاب من طرف واحد في الضفة الغربية وانه سيصر على تنفيذ خارطة الطريق. كيف نفهم هذه التأكيدات؟

- على أساس فهم شارون لخارطة الطريق الذي تبناه جورج بوش عمليا في المراسلات بينهما. وفهمه هذا يجعل الدولة الفلسطينية بديلا للانسحاب الى حدود الرابع من يونيو 1967 وبدل حق العودة وبدل القدس الخ.

- إن الشرط للبدء بمفاوضات ذات معنى حول الموضوع هو صعود قيادة فلسطينية جاهزة للقبول بهذه الشروط ويسبق التفاوض استعدادها لضرب فصائل المقاومة الفلسطينية.

- حتى ذلك الحين تشغل “اسرائيل” الفلسطينيين والرباعية وممثلها في غزة ورايس وغيرهم بمفاوضات إجرائية حول قطاع غزة.

أما بالنسبة لإصرار شارون أن يقود الحكومة المقبلة كما يريد وعلى هواه حتى لو أدى ذلك الى شق الحزب فسببه رغبته المدفوعة بجنون العظمة أو بالمسؤولية الوطنية، والأمر سيان عند من لا يرى فرقا بين شخصه وبين الوطن، لوضع معالم الحل الدائم مع الشعب الفلسطيني وبالتالي وضع حدود “إسرائيل” كما يرى وبموجب خرائط اعتقد هو دائما أنها الخرائط الصحيحة والملائمة لمفهومه للأمن. وإذا لم يكن ذلك ممكنا من خلال الحل فسوف يقوم شارون بتغيير معالم المكان بواسطة الاستيطان والجدار والطرق الالتفافية بحيث تتلاءم مع الحدود التي يرغب، وبحيث تجهز جغرافية المكان السياسية لاستقبال هذه الحدود. هذا ما سوف ينشغل به شارون. أما الأمر الثاني الذي سوف ينشغل به فهو قائم على افتراض واقعي لحالة عدم توافر قيادة فلسطينية جاهزة للدخول في مفاوضات ذات معنى بتصفية المقاومة وهذا يعني العمل على تغيير المزاج السياسي الفلسطيني والمصالح الفلسطينية وبنية القيادة الفلسطينية بالعصا ضد من يعصي وبالجزرة لمن يرضى ويتصدى للمهمة “الإسرائيلية”.

يقيم شارون إذاً حزب الانفصال الديمغرافي عن الفلسطينيين على اصغر قطعة من الأرض، إنه يقيم الحزب الذي يلائم نفسه مع التغيرات الإقليمية، خاصة الوجود الأمريكي في المنطقة، ولكنه لا يأخذ طبعا الحركة الجماهيرية الشعبية، العربية والفلسطينية بعين الاعتبار. وهي الحركة الجماهيرية التي ولدت انتفاضتين حتى الآن، وإحباطا مستمرا للجهد العسكري الأمريكي في العراق.

هذا النوع من الأحزاب لا يعمر طويلا بالطبع، وهو يرتبط بنجم، إما قائد عسكري أو سياسي لامع، ويعمر عادة دورة أو دورتين برلمانيتين. وفي غياب جهاز حزبي وماكنة انتخابية يحصل أقل مما تتوقع له الاستطلاعات. ولا يعمر ابدا بعد غياب قائده ومؤسسه. وقد سبقه الى ذلك بن جوريون في حزب “رافي” ويجئال يدين في حزب “داش”، ورفائيل ايتان في حزب “تسومت”، وعيزر فايتسمان في حزب “ياحد” وهو نفسه اسس مرة حزب “شلومتسيون” وحاز على مقعدين. ولن نتعب القارئ هنا بالتفاصيل. ولكن حزبه هذه المرة لا يقوم من لا شيء بل من تيار قائم في اليمين، وهو ليس مجرد نجم عسكري بل رئيس حكومة مرتين وسوف يتجاوز العشرين مقعدا، وليس الثلاثين كما تعرض ذلك بعض وسائل الإعلام. وهنالك امكانية أن يتجاوزه حزب العمل بقيادة عمير بيرتس ولو بمقعد واحد. وعندها يسأل السؤال كيف يشكل الأخير حكومة بوجود غالبية لمعسكر اليمين في الكنيست؟ وهي غالبية قائمة وسوف تزيد على أي حال. وهل ينضم اليه حزب شارون الجديد؟ فهذا الانضمام هو الإمكانية الوحيدة المتاحة أمامه لتشكيل ائتلاف؟

قد تتميز حكومة بقيادة عمير بيرتس ومستندة الى حزب يميني كبير أو أكثر إضافة الى حزب العمل عن حكومة بقيادة شارون بأمر واحد فقط هو أنها سوف تكون على استعداد للتفاوض مع الفلسطينيين دون شروط مسبقة. ولكن حتى في هذه الحالة سوف يتفاجأ من ليس لديه استراتيجية بلاءات الاجماع “الإسرائيلي” أمامه حتى في حكومة يقودها بيرتس.