مارتن انديك/هيرالد تريبيون

"الحياة حلوة" هذه هي الرسالة التي يجري نشرها على اللافتات والجداريات في قطاع غزة، وان تكن تلك الشعارات مكتوبة على اشياء مستوردة من أوروبا وبانفاق اوروبي، ثم انها الرسالة التي تبعث عليها الصور الآتية في نهاية الاسبوع عن المعابر مع مصر في غزة ورفح والتي يأتي منها الناس ويخرجون دون حواجز اسرائيلية. والحياة افضل في اسرائيل ايضاً. فقد انخفضت وتيرة العمليات الى واحدة كل شهرين او ثلاثة. وهكذا فقد عاد السياح بكثرة، وعادت شركات الانتاج التكنولوجي ليس للاعلان فقط؛ بل وللعمل ايضا. وقد بعث خروج رئيس الوزراء اريئيل شارون آمالا بقيام تحالف وسط بعد الانتخابات، يؤدي الى سلام مع الفلسطينيين.

لكن، وراء هذه الواجهة المتفائلة، تلوح صورة اخرى اقل تفاؤلاً، وأكثر واقعية. فغزة لا تحكمها اليوم السلطة الفلسطينية بل امراء حرب متصارعون، وميليشيات ولصوص وقادة اجهزة امنية وتنظيمات ارهابية. وليس هناك سلطة قضائية مستقلة أو حكم قانون. وقد انهارت المؤسسات التربوية والاجتماعية والبطالة تبلغ الـ 50% وبعد ثلاثة اشهر على الانسحاب الاسرائيلي، هناك اشارات قليلة فقط على تجدد العملية الاقتصادية: ليست هناك مشروعات عمرانية جديدة، ولا محاولات لانشاء طرق وخدمات اساسية تخربت خلال أربع سنوات "من الحرب والتدمير من جراء الانتفاضة، والهجمات الاسرائيلية. وفي هذه البيئة المليئة بأسباب القلق والاضطراب، لا عجب ان تتصاعد شعبية حماس، التي تجمع بين الأعمال العنيفة ضد الاحتلال، والشبكة الواسعة للخدمات الاجتماعية. واذا جرت الانتخابات التشريعية في كانون الثاني كما هو مقرر، فان حماس قادرة على الفوز بنصف المقاعد، وبالتالي السيطرة على السياسات في القطاع.

ان اربع سنوات من الانتفاضة المليئة بالعنف، اقنعت الاسرائيليين اخيراً بقبول الحل الواقعي، أي الانسحاب أو فك الارتباط من طرف واحد؛ وبذلك اخرجوا انفسهم من المسؤولية عن 1.3 مليون فلسطيني. وإذا توصلت حماس للسيطرة على القطاع؛ فان الاسرائيليين سيقفلون المعابر التي لا تكاد تعمل الان على أي حال. وسيكون عليهم بعدها الاعتماد على الكهربائيات والحواجز لحماية انفسهم، وربما ايضا اللجوء إلى الهجمات المضادة باستمرار. وقد اعلن شارون عن قبوله لحل خارطة الطريق الذي وضعته اللجنة الرباعية المكونة من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وروسيا والأمم المتحدة. بيد ان الوجه الآخر لقبول شارون عدم الاعتماد على المفاوضات، بل على دولة قوية ذات اكثرية يهودية وقدس موحدة عاصمة أبدية لاسرائيل. وهو يحول تلك الفكرة إلى حقيقة من خلال السور الواقي الذي يعزل القدس من الضفة، ويحمي المستوطنات الاسرائيلية الكبيرة. وعندما يتم الجدار، وينجح شارون في الانتخابات، فالأرجح انه سيقوم بانسحاب منفرد آخر من قبل المنطقة الفلسطينية، محتفظاً بالمستوطنات الكبيرة وبالقدس ووادي الاردن وتاركاً للفلسطينيين 70% من الضفة الغربية. وهذه الوجهة في النظر إلى الامور تجد لها انصاراً في الطرف المقابل. فهناك من يرى تقديم مصلحة قطاع غزة على اشكالات الضفة الغربية. فأهالي غزة بدأوا يقرفون من السلطة الفلسطينية الضعيفة، ويخشون ان تقلل من حرية حركتهم، ولو كان ثمن ذلك ترك الضفة تحت السيطرة الاسرائيلية. ويتحجج هؤلاء بأن غزة كانت دائماً العمود الفقري لحركة التحرر بفلسطين؛ ولذلك يمكن لهم ان ينشئوا كياناً في ذلك الجزء الذي انسحبت منه اسرائيل، ويتركوا الضفة وشأنها.

وما بدأت أميركا التفكير في وجهات هذه الانعزالية من الجانبين، كوندوليزا رايس وزيرة الخارجية الاميركية، وجيمس ولفنسون، ما يزالان يأملان استخدام الانسحاب من غزة منطلقاً للمفاوضات الاسرائيلية ـ الفلسطينية، بيد ان جهودهم الكبيرة تصطدم حتى الان بضعف السلطة الفلسطينية، وقلة اهتمام الاسرائيليين الذين لا يهمهم غير امنهم وحسب. وقد يكون من مصلحة اميركا الان الانصراف للحصول على دعم دولي لانشاء دولة في غزة اولا. أما المصريون فيقبلون تدريجياً بهذا الحل، منصرفين الى وضع ضباطهم في مواقع السيطرة على المعابر من غزة وإليها، في الوقت الذي يدربون قوات الامن الفلسطينية، ويضغطون على التنظيمات العنيفة لكي تتوقف عن الضربات. ويمكن للمؤسسات الدولية، مستعينة بالوصاية المصرية، الانطلاق لبناء مؤسسات غزة الاقتصادية. أما ولفنسون، مبعوث الرباعية، فيستطيع توجيه التجارة من غزة إلى مصر وبالعكس وبخاصة ان الحدود لهذه الجهة ما عادت السيطرة عليها لاسرائيل؛ كما يستطيع اجتذاب الاستثمارات الخارجية الى القطاع.

وقد يكون من المعقول بالنسبة لادارة بوش، الاستعداد للتفاوض مع الحكومة الاسرائيلية المقبلة على الانسحابات من الضفة، ومن الضواحي العربية للقدس الشرقية، كما يستطيع الاميركيون ان يعطوا انتباها اكبر، لآثار الانسحاب من الضفة الغربية، وكيف سيؤثر ذلك على تماسك الضفة، وعلى العبور الى القدس، وهذه العملية لا يخشى ان تحول دون الحل النهائي، والتفاوض الضروري لذاك الحل بين الاسرائيليين والفلسطينيين. اذ ان السلطة يمكن ان تتحدد بعد غزة الى المناطق التي يخرج منها الاسرائيليون بالضفة والقدس الشرقية. فالفصل بين غزة واسرائيل، تمر بين الضفة واسرائيل، يمكن ان يكونا تمهيداً ملائماً للسلام. لقد وضع المصريون ثم الاردنيون مصالحهم اولا؛ ولذلك صار ممكنا اقامة سلام بين الدولتين واسرائيل، وربما آن الأوان لأهل غزة ان يفعلوا الشيء نفسه.