الخليج

الانسحاب من غزة.. وأبو مازن يخلف عرفات

تودع فلسطين العام 2005 ولما تنته بعد مرحلة المخاض التي تمر بها الساحة الفلسطينية على كل المحاور سواء الداخلية والخارجية والتي لا احد يستطيع الجزم حول طبيعة الشكل النهائي لجملة المتغيرات المتسارعة التي تعصف بكل المحددات السياسية والتوازنات القائمة.
وعلى مدى 12 شهرا مضت عاش الفلسطينيون الكثير من التطورات والمتغيرات الدراماتيكية التي تفتقر الى الترابط المنطقي حيث تاهت او تضاربت الاولويات سواء بين الفلسطيني والفلسطيني او بين الفلسطيني والمحتل لتشكل خليطا من البرامج غير المنسجمة بانتظار مرحلة حسم يتمنى الجميع ان تتحقق في العام الجديد بعد ان قرر الطرفان الفلسطيني و”الاسرائيلي” الاحتكام الى صندوق الانتخاب الذي تؤثر نتائجه عليهما، وعلى بعضهما.

في التاسع من يناير/كانون الثاني اصبح ابو مازن ثاني رئيس منتخب للسلطة الفلسطينية بعد الرئيس الراحل ياسر عرفات بعد ان تعهد بالقضاء على الفلتان الامني الذي بدأ يظهر بشكل ملموس في الاراضي الفلسطينية وكاد ان يطال رصاصه العشوائي الرئيس نفسه في خيمة عزاء ابو عمار بغزة، كما تعهد بالمضي قدما في العملية الديمقراطية وتجديد شرعية المؤسسة الفلسطينية الرسمية في محاولة منه لاعادة رسم الخارطة السياسية الفلسطينية منتقلاً من النظام الابوي الذي جسده ابو عمار الى نظام مؤسسي.

وبعيد انتخابه شرع ابو مازن بحوار مع كافة الفصائل الفلسطينية وعرض برنامجه السياسي عليهم في محاولة للوصول الى اتفاق قواسم مشتركة ووصف الحوار من كافة الاطراف بأنه حوار ناجح حيث حظي على ثقة الفصائل الاسلامية تحديدا والتي كان معها شديد الوضوح.
وفي الخامس والعشرين من الشهر الاول كانت المفاجأة التي غيرت الكثير من الموازين الداخلية بفوز حركة حماس بثلثي البلديات التي جرت فيها الانتخابات المحلية في مرحلتها الاولى فيما حصلت حركة فتح وباقي الفصائل على الثلث الباقي فيما وصف بهزة كبيرة عصفت بالنظام السياسي الفلسطيني الذي اعتاد زعامة فتح طوال اربعين عاما مضت.

وما زاد من حجم المفاجأة ان الانتخابات جرت في دوائر منتقاة بعناية ومحسوبة جميعها على حركة فتح مثل بلدة بيت حانون شمال القطاع ومدينة دير البلح وسط القطاع، وكان فوز حماس غير متوقع فضلا عن كونه فوزا ضخما اعاد ترتيب الاولويات بالنسبة لحركة فتح ورئيسها الذي اراد البدء بالاصلاح الداخلي وتمتين الجبهة الداخلية.

ولكن “اسرائيل” لم تترك الامور تسير من دون تأثيراتها فشنت في فبراير تصعيدا كبيرا واستأنفت بشكل محموم حملة الاغتيالات في صفوف الفصائل المقاومة من فتح وحماس والجهاد الاسلامي وايضا طالت عدداً من كوادر الجبهة الشعبية وفي المقابل صعدت المقاومة من عملياتها النوعية من ابرزها عملية “ثقب في القلب” التي طالت احد ضباط المخابرات وعمليات الانفاق التي قامت بها حركة حماس وادت الى تفجير عدد من المواقع “الاسرائيلية” بشكل اربك المؤسسة الامنية الصهيونية.
وبدا من خلال التصعيد الكبير الذي جرى في شهر فبراير/شباط ومطلع مارس/آذار ان كلا من المقاومة و”اسرائيل” يلقيان بأقصى ما عندهما للوصول الى وقف لاطلاق النار وهو ما جرى بالفعل في الحوار الشهير الذي جرى بالقاهرة بحضور الرئيس محمود عباس وقادة الفصائل وابرزهم خالد مشعل والذي افضى الى الاتفاق الذي حمل اسم العاصمة المضيفة والذي سيكون في الاشهر القادمة عنوان العلاقة الفلسطينية - الفلسطينية والشماعة التي يعلق عليها كل طرف مواقفه.

وبعد انتهاء الحوار التقى ابو مازن برئيس حكومة الاحتلال ارييل شارون متسلحا بالاجماع الوطني وخاض هجوما دبلوماسيا ناجحا تعهد فيه شارون بجملة من الاجراءات والتسهيلات في الضفة والقطاع ظلت حبرا على ورق بفعل التصعيد “الاسرائيلي” رغم الاتفاق في ذات الاجتماع على وقف لاطلاق النار، اذ بعد اقل من اسبوعين على القمة كانت قوات الاحتلال تغتال عنصرين من كتائب شهداء الاقصى وسرايا القدس بالضفة وكأن شيئا لم يكن.

ومع ذلك واصل الفلسطينيون محاولات البناء الداخلي والتي تعرضت لازمة كبيرة في شهر مايو بعد اجراء المرحلة الثانية من الانتخابات البلدية والتي فازت فيها ايضا حركة حماس في دوائر محسوبة ايضا على حركة فتح من أبرزها مدينة رفح جنوب قطاع غزة ما اضطر الاخيرة الى اللجوء الى القضاء للطعن في النتائج رغم ان المراقبين ومؤسسات حقوق الانسان أكدوا نزاهة الانتخابات وهو ما توصلت اليه المحكمة ايضا باستثناء بعض الصناديق التي قضت المحكمة باعادة الاقتراع فيها ما ادى الى غضب حماس وخروجها بتظاهرات عارمة ترفض قرار المحكمة وتصفه بالقرار المسيس.

ووضعت هذه الحالة الاوضاع في الساحة الفلسطيية على شفا المواجهة غير ان وصول وفد امني مصري رفيع المستوى نجح في نزع فتيل الاحتقان ولكن بشكل مؤقت لان اسبابا اخرى زادت حالة الاحتقان الداخلي وخاصة بعد ان اعلن الرئيس عباس في يونيو عن تأجيل الانتخابات التشريعية التي كان مقرراً عقدها في الخامس عشر من يوليو ما ادى الى غضب كبير في اوساط الفصائل الفلسطينية وخاصة حركة حماس التي راهنت على فوزها في هذه الانتخابات بفعل التأييد الكبير لها في الشارع الفلسطيني.

وفي هذه الاثناء قامت السلطة الفلسطينية بأول اعدامات في ظل حكم عباس حيث تم اعدام اربعة فلسطينيين محكومين بقضايا جنائية بعد ان ضجت العامة بسبب تزايد حالات الانفلات الامني.

كما شهد هذا الشهر تحولا في العلاقة مع “اسرائيل” حيث وافق الاحتلال على تنسيق انسحابه مع السلطة ولكن بالشق الامني، وفي المقابل تدهورت الأوضاع الميدانية وقامت سرايا القدس جناح الجهاد الاسلامي المسلح بعدة عمليات قوية بغزة ردا على تدنيس المصحف الشريف في سجون الاحتلال، ما اضطر محمود عباس الى عقد اجتماعات مع الفصائل الفلسطينية لضبط ايقاع التهدئة.

وفي ختام هذا الشهر جرت اول عملية اشتباك فلسطيني - فلسطيني بين عناصر من لجان المقاومة الشعبية وافراد جهاز الامن الوقائي بمدينة غزة مهدت لاشتباكات اخرى اكثر عنفا وقعت في منتصف الشهر التالي بين مقاتلي حركة حماس وافراد الاجهزة الامنية بدأت في بلدة بيت لاهيا شمال قطاع غزة بعد تعرض مقاتلين من كتاب القسام لاطلاق نار من قبل الشرطة الفلسطينية واصابة احدهم فقامت عناصر حماس بالسيطرة على الموقع الذي اطلقت منه النار وتدميره واحتلال عدة مراكز اخرى في شمال القطاع. ومرة اخرى يصل وفد امني مصري الى القطاع بشكل طارئ وينجح بوقف الاشتباكات بين الجانبين والتي اصيب فيها نحو 50 من رجال الشرطة والاجهزة الامنية الفلسطينية غير ان اسباب الازمة ظلت قائمة بسبب اصرار الجانبين على تطبيق الجانب الاخر ما يتعلق به من التزامات في اتفاق القاهرة فحماس كانت تطالب بعقد الانتخابات التشريعية وباقي البلديات واحياء منظمة التحرير فيما تطالب السلطة حماس بالكف عن قصف المستوطنات، كما ظلت حالة المقاطعة بين عباس وقادة حماس، ولكن احتفالات ثورة يوليو شهدت اذابة الجليد حيث التقى الطرفان في حفل اقامته السفارة المصرية بغزة .

وفي اغسطس/آب كان قطاع غزة على موعد مع عهد جديد حين بدأت قوات الاحتلال باخلاء المستوطنات والمستوطنين لتكون المرة الاولى التي يخلي فيها الاحتلال “الاسرائيلي” مستوطنات من منطقة فلسطينية بالكامل تحت اطلاق النار وبدون اتفاق سياسي ما اعتبرته كافة الاوساط الفلسطينية بأنه نصر حقيقي وتغيير في الفكر “الاسرائيلي” الذي رأى قبل اشهر فقط ان مستوطنة نتساريم مثل تل ابيب بينما انهارت نتساريم اخيرا ورحل سكانها واصبحت حطاما.

وقبل ان يكتمل الشهر كانت الساحة الفلسطينية على موعد مع تصاعد الفلتان الامني واغتيال اللواء موسى عرفات القائد السابق للامن الوطني والاستخبارات العسكرية بعد اقتحام مائة مسلح ملثم لمنزله في منطقة تعج بالمواقع الامنية وقريبة من منزل الرئيس عباس.

وفي سبتمبر/أيلول رفرف العلم الفلسطيني للمرة الاولى على انقاض المستوطنات “الاسرائيلية” في القطاع ودخل الفلسطينيون ارضهم المحتلة منذ العام 1967 ليرى جيلا كاملا ارضا لم يرها من قبل وتنهار فكرة الاستيطان بكاملها في قطاع غزة وتعم الاحتفلات كافة مناطق القطاع. وللمرة الاولى في تاريخها تنظم حركة حماس عروضا عسكرية ضخمة لمقاتليها واسلحتها بعشرات الاف المسلحين غير ان هذه الاحتفالات تتحول الى كارثة كبرى في مخيم جباليا بعد وقوع انفجار ادى الى مقتل تسعة عشر فلسطينيا سارعت السلطة للتأكيد على انه انفجار داخلي بسبب سقوط احد الصواريخ من سيارة العرض بينما قالت حماس انه ناجم عن قصف “اسرائيلي” ناجم عن طائرات الاستطلاع التي حلقت بكثافة في المكان.

واطلقت كتائب القسام عشرات الصواريخ على اهداف “اسرائيلية” ما ادى الى قصف “اسرائيلي” عنيف للقطاع انهى حالة الفرح التي رافقت الانسحاب “الاسرائيلي” منه ووضعت العلاقة بين حماس والسلطة في حالة الاحتقان مجددا وتبادل التصريحات والاتهامات بشكل كبير وصفه البعض بأنه تحضير مسبق للدعاية الانتخابية.

ولم تمر ايام حتى اشتعلت شرارة المواجهة بين الجانبين بسبب اشكال سرعان ما تحول الى اشتباكات عنيفة بالرصاص بين مقاتلي حماس وعناصر الشرطة الفلسطينية وتطور الى قيام عناصر الحركة بقصف احد مقار الشرطة ما أسفر عن مقتل ضابط كبير واصابة آخرين.
واستطاعت القوى الفلسطينية تطويق الاشتباكات سريعا بعد وقوعها وبعد تدخل القيادة السياسية لحماس التي رأت في الحادث كارثة تهدد سمعة الحركة غير ان صدور بيان ادان حماس عن لجنة القوى الوطنية لقيادة الانتفاضة ادى الى خروج حماس منها بعد ان كانت لسنوات الاداة الوحيدة الجامعة لكل الفصائل الفلسطينية. وشهد الشهر التالي حوارات مكثفة بين حماس وفتح بعيدا عن لجنة المتابعة انتهى الى وقوف الجانبين كل على مواقفه ولم يفض الى اتفاق الحد الادنى.
وفي نوفمبر/تشرين الثاني استأنفت قوات الاحتلال عمليات الاغتيال في قطاع غزة وقتلت قائد كتائب شهداء الاقصى حسن المدهون وأحد عناصر حماس كان معه في سيارته اضافة الى قائدي سرايا القدس في غزة محمد الشيخ خليل وفي الضفة لؤي السعدي.

وردت الجهاد بعمليتين اسفرتا عن ازمة مع السلطة الفلسطينية التي شنت في الشهر الاخير من العام حملة اعتقالات في صفوف الحركة لاسيما ان العملية الثانية جاءت بعد فتح باب الترشح للانتخابات التشريعية التي تشارك فيها كافة الفصائل باستثناء الجهاد.

وأبرز ما ميز الايام الاخيرة من العام هو الخلاف الكبير داخل حركة فتح بعد فشل انتخاباتها الداخلية “البرايمرز” لاختيار مرشحيها للانتخابات التشريعية والتي عكست عمق الأزمة التي تشهدها الحركة وتجعل من الصعوبة بمكان اجراء الانتخابات بموعدها. وفي هذه الاثناء يستعد الفلسطينيون الدخول الى العام الجديد مع امل في ان تكون الانتخابات الفلسطينية بداية عهد جديد من الشراكة في صناعة القرار الفلسطيني ينهي حالة الاستقطاب بين حركتي فتح وحماس ويضع الجميع في دائرة صنع القرار.

بينما يراقبون الانتخابات “الاسرائيلية” التي تحمل للمرة الاولى طروحات سياسية للحل في المنطقة وتتحدث صراحة عن دولة فلسطينية والحدود وغيرها من القضايا يحتاج الفلسطينيون الى التوحد كي لا تكون أية تسوية وفق الرؤية “الاسرائيلية”.