النهار/راجح الخوري

يموت آرييل شارون مثل ديناصور يقطر دماً، فمنذ اربعين عاما لم يكن فقط في طليعة الاسرائيليين الذين قادوا المذبحة ضد الفلسطينيين والعرب وبينهم لبنان، بل انه وسع هوامش العنصرية والحقد لتكون له مذابحه الخاصة الموقعة بامضاء شخصي وهو ما حصل مثلا في صبرا وشاتيلا.

لا يهمنا كثيرا التوقف عند الموت الجسدي لهذا الرجل الذي تفوق على نفسه في ارتكاب العار، والذي برع في قيادة اسرائيل الى مواقع "النازية الجديدة" لا بل الى التفوق عليها ربما في سياق وضع ترجمة ميدانية، لنظرية يهودي آخر يدعى سيغموند فرويد قال يوما: "ان الضحية تتوق دائما الى لعب دور الجلاد".

وعلى هذا الاساس، يمكن الافتراض ان شارون تفوق على جلادي الرايخ الثالث وهو يلعب ضد الفلسطينيين والعرب دور ادولف هتلر وادولف ايخمان في الهولوكوست.

لا يهمنا الموت الجسدي لشارون، بل الموت السياسي لهذا المخادع الكبير الذي يستمطرون الصلاة من اجله في بعض العواصم الغربية، باعتبار انه "رجل التسوية" و"رجل السلام" بينما هو الرجل الذي مضى بعيدا في مسيرة القتل والتدمير، وكانت آخر الجثث التي انتصبت تحت عرشه، "جثة اتفاق اوسلو" و"جثة خريطة الطريق" اضافة طبعا الى رؤية جورج بوش عن قيام دولة فلسطينية الى جانب دولة اسرائيل تحقيقا للسلام في المنطقة.

انه رجل الدم وثعلب الخديعة، فعندما يتحدث المسؤولون في واشنطن او في غيرها من العواصم الغربية عن الحفاظ على دينامية التسوية عبر اعادة تحريك المفاوضات بين الاسرائيليين والفلسطينيين، فان ذلك الحديث يبقى من دون اي معنى، ويظل في مستوى التمنيات ان لم نقل الاوهام. وفي هذا السياق لا يحتاج احد من المتابعين الى استعارة نظرية الديبلوماسي الاميركي السابق ادوارد ووكر الذي يقول: "شارون دمر اتفاق اوسلو ومزق خريطة الطريق".

اذاً ماذا يبقى ليسمح بالحديث عن رغبات شارون بالتسوية؟

جدار الفصل العنصري؟ ام الخروج من غزة لإدارتها بالنار من الخارج، حيث لن تكون كافية اقامة "شريط عازل" لابعاد "صواريخ" المقاومة. وهي في النهاية مجرد العاب نارية قياسا بآلة التدمير الاسرائيلية.

عملياً سبقت مفاوضات "السلام" وفقاً لاتفاق اوسلو شارون الى مثواها الاخير، اما "خريطة الطريق" فقد نجح في الإلتفاف عليها عبر السور العازل والانسحابات المفخخة من غزة، دون ان يثير ولو امتعاض جورج بوش الذي ينهك في الصلاة من اجله الآن!

ان كلمة "كاديما" ، وهي الاسم الذي اطلقه على حزبه الجديد تعني "الى الامام". وهذه كلمة تتناسب تماما مع سياسات شارون الذي خرج من تكتل ليكود، بعدما عجز هذا التكتل عن مواكبة مناوراته الخلفية ذات الطبيعة التآمرية. وفي هذا الاطار كان الانسحاب من غزة مقدمة لكسب رهانين اساسيين يندرجان في جوهر روح شارون الكولونيالي.

اولاً: دفع الفلسطينيين نحو مزيد من التناقضات والانشقاقات، وهو امر لا يحتاج الان الى دلائل وامثلة اذ يكفينا بؤساً متابعة اخبار غزة التي تقف على تخوم الفوضى الامنية.

ثانياً: تأخير الحل النهائي الى ما لانهاية على ما يبدو وهو يشكل جدولاً زمنياً ضرورياً لابتلاع المزيد من الاراضي في الضفة الغربية، وفي النهاية لن يكون للفلسطينيين ما يستحق ان يطلق عليه اسم دولة، بل مجموعة من الاراضي والتجمعات المتباعدة التي تشبّه بالجبنة السويسرية.

لقد سبق ان مات كثيرون من الذين قادوا دولة الاغتصاب والعدوان: موشي شاريت، ديفيد بن غوريون، غولدا مئير، مناحيم بيغن، اسحق رابين، ولكن قياساً بالظروف الراهنة على المستويين الاقليمي والدولي، فان شارون انطلاقا من الدفرسوار على الجبهة المصرية، الى غزو بيروت، مرورا بتسميم ياسر عرفات وخنق اوسلو وتضييع خريطة الطريق يكون في مقدم هؤلاء وقد فاض تاريخه لا بالقتلى الفلسطينيين والعرب فحسب، بل بخنق كل خطوة في اتجاه ما يشبه التسوية.

"كاديما" تعني الى الامام. بعد شارون من المرجح ان تدخل السياسة الاسرائيلية مرحلة الى الوراء، ليس بمعنى التراجع من التعنت والعدوان، بل بمعنى اختيار وسائل اكثر فظاظة في استكمال مسيرة الاحتلال.

لن يكون ايهود اولمرت تلميذاً ولو متوسط البراعة في اتباع طريق سلفه شارون اذا قيض له ولحزب "كاديما" ان يكسبا السلطة. ولن يكون عمير بيرتيس قادرا على اكثر من استرجاع شمعون بيريس الى صفوف حزب العمل اذا اراد فعلا، والاخير منافس تاريخي له في القيادة.

ولن يكون بنيامين نتنياهو من الليكود غير ما يعرفه عنه الاسرائيليون والعالم. ذلك الرجل الاستعراضي المتصلب الى درجة انه في اندفاعاته المتهورة لن يواصل مسيرة الاصطدام والتنكيل بالشعب الفلسطيني، بل سيجد نفسه وجها لوجه مع زعماء كثيرين في اوروبا، على الاقل لأن الحديث عن دمقرطة المنطقة ولو في اطار المزاعم والاوهام، لا يتسع لمغامرين دمويين من امثاله. وهو الذي جاء الى السلطة عام 1996 حاملا شعار: السلام بالاكراه بدلا من السلام في مقابل الارض.