رندى حيدر/النهار

بعدما بات من شبه المؤكد أن أرييل شارون لن يستفيق من غيبوته في وقت قريب، كان على الإسرائيليين شعباً وأحزاباً ومسؤولين أن يعودوا الى روتين حياتهم اليومية من دون من كان يمثل حتى وقت قريب صورة "الأب" و"الجد" والزعيم السياسي الوحيد القادر أن يقوم بتقسيم "أرض اسرائيل" واخلاء مستوطنات يهودية، دون أن يبدو ذلك ضعفاً أو استسلاماً في نظر أخصامهم من الفلسطينيين.

أرييل شارون استطاع ان يقنع الاسرائيليين أنه وحده أكثر من أي زعيم آخر قادر على الدفاع عن مصالحهم وبإمكانهم أن يثقوا به، وهذا ما فعلوه طوال السنوات الخمس الماضية، وما كانوا سيفعلونه في الشهرين المقبلين لولا انهياره الصحي الصاعق.

لقد استطاع أرييل شارون ان يعكس في السنتين الأخيرتين من حكمه إجماعاً اسرائيلياً جديداً من المفيد التعرف عليه عن كثب لأنه يمثل الى حد بعيد التغيرات العميقة التي لحقت بالوعي والإدراك السياسيين للإسرائيليين منذ فشل مفاوضات "كمب دايفيد" صيف عام 2000 واندلاع انتفاضة الأقصى وتجميد كل المفاوضات السياسية مع الفلسطينيين، وما استتبعه ذلك من انهيار اتفاقات أوسلو التي وقعها زعماء حزب العمل الاسرائيلي مع ياسر عرفات، وعودة النزاع مع الفلسطينيين الى نقطة الصفر.

وصل أرييل شارون الى السلطة حاملا معه منطقاً سياسياً مغايراً، قوامه: لا مجال في وقت منظور للتوصل الى تسوية مع الفلسطينيين تنهي النزاع مرة واحدة والى الأبد لذا من الأفضل البدء بحلول جزئية بعيدة المدى يمكن اختبارها والبناء عليها. ترافقت هذه النظرة مع التحول الأساسي الذي مر به شارون ألا وهو اقتناعه باستحالة استمرار السيطرة الاسرائيلية على الشعب الفلسطيني والاحتفاظ بالمناطق الفلسطينية الى ما لانهاية لأن ذلك سيؤدي الى زوال اسرائيل في وقت قريب كدولة يهودية ويحولها الى دولة ثنائية القومية.

لقد برهن شارون في الصيف الماضي لشعبه عن قدرته على التمسك بمواقفه وتنفيذ خطة فك الارتباط عن غزة رغم كل الحملات التي شنها عليه أعضاء حزبه وجمهور المستوطنين. وطوال تلك الفترة العصيبة أثبت شارون أنه لا يزال البلدوزر الذي لا يوقفه شيء عن مساره وكانت استطلاعات الرأي العام تدعمه وتؤيده.

آمن الجمهور الاسرائيلي بأن رؤية شارون السياسية تخدمهم في الدرجة الأولى ولا تخضع لأي إملاءات من الخارج ولا حتى من الولايات المتحدة، من هنا دعمهم لها. ولكن يبدو واضحاً ان هذه الرؤية يكتنفها الكثير من الغموض وعدم الدقة وان ثقة الاسرائيليين كانت أكثر من أي شيء آخر بشخص شارون من هنا بات من الضروري بمكان بالنسبة لزعماء حزب "كاديما" توضيح ما بات مصطلحاً على تسميته بـ "إرث" شارون السياسي.

وهنا يتضح أن شارون عكس الزعماء الاسرائيليين الآخرين لم يترك رؤية يمكن التأسيس عليها لبناء منظومة فكرية، وانما سلسلة من المواقف المتفرقة فيها الكثير من الارتجال. من بين المسائل الشائكة هي توضيح الحدود الدائمة لدولة اسرائيل التي تحدث عنها أثناء عرضه لبرنامج حزبه. بالطبع جزء من هذه الحدود رسمها جدار الفصل الذي بنته اسرائيل بينها وبين الضفة الغربية، ولكن سبق لشارون أن اشار الى تمسك اسرائيل بالسيطرة على مناطق حيوية لا يمكن ان تتنازل عنها من بينها منطقة غور الأردن، بالاضافة الى مسائل عالقة أخرى مثل تقسيم مدينة القدس وكيفية التعويض على الفلسطينيين مع ضم اسرائيل اليها الكتل الاستطانية الكبرى في الضفة.

من هنا يتضح لنا ان الإجماع الاسرائيلي الجديد الذي مثله شارون والذي يستند اليوم الى القاعدة الشعبية التي تدعم تيار الوسط السياسي يقوم على رؤية سياسية غير واضحة وغير محددة المعالم تدعم تسوية بعيدة المدى مع الفلسطينيين شرط الحفاظ على الأمن الاسرائيلي، ولكنها من جهة أخرى لا تثق بوجود طرف فلسطيني قادر على التعهد بالتسوية المطلوبة وتعتبر أن ذلك سيكون مهمة الزعامة الاسرائيلية وحدها التي غاب عنها شارون مع ما كان يتمتع به من ثقة الجمهور.

يبدو الاجماع الاسرائيلي امام امتحان اعادة صياغته من جديد وهو امتحان لجميع زعماء الأحزاب الاسرائيلية.