بتنا بعيدين عن حالة النشوة التي سادت كمناخ مصاحب لعملية إنهاء الوجود السوري في لبنان، وحكمت لوقت القوى المحلية التي انخرطت طرفاً فيها إفترض لنفسه دورا فاعلا. مذاك أتيح للجميع إكتشاف الفارق بين الأفكار البسيطة والواقع المعقد. ولذلك الواقع ألف وجه.

أوله أن سورية تحيط بلبنان من كل جوانبه، عدا الحدود الجنوبية التي تجاور إسرائيل، وعدا البحر طبعا. أجاب بعضهم على هذا المعطى الموضوعي بأن لبنان يمكنه الإتجاه نحو إعتماد الطيران والسفن للتجارة وحركة البشر والبضائع! ثم إكتشف - حتما- فانتازيا إقتراحه وطلاقه مع وقائع تحسب عادة بالأرقام وليس بالكلام. ومن لا يذكر أزمة إغلاق الحدود وتوقف آلاف الشاحنات دون العبور وتلف أطنان من البضائع وخراب بيوت الناس، تجارا ومنتجين. بعضهم ألمح إلى فوات موضة ذلك الموقف من إسرائيل، الذي يجعل الحدود معها خطاً حربياً أو، أقله، يجعلها محكمة الإغلاق. والحق أنه بخلاف الإقتراح الأول، بقيت هذه الفكرة الاخيرة في طور الضمنيات، تخص مستقبلا إفتراضيا ليس ثمة ما يؤشر إلى إمكان تحققه في مدى منظور، ليس فحسب بسبب تشبث ما بموقف عدائي من إسرائيل، وإنما لأن كل السياق الخاص بعلاقة مطبّعة بين المنطقة العربية وإسرائيل ما زال مستعصيا، بل ما زالت دونه أهوال، موضوعية هي الأخرى، رغم بعض الإجراءات المقررة أو الممارسة هنا وهناك.

ثاني وجوه الواقع العنيد يخص موقع لبنان الفعلي في المنطقة، بمعنى أهميته. قد يحلو للبعض الإستمرار في الإعتقاد أن الشمس تشرق وتغيب في لبنان، إلا أن ذلك الزمن الذي كان لبنان يحتل فيه مكانة شديدة الأهمية للمنطقة العربية قد إنقضى منذ عقود، نتيجة التطورات الموضوعية هي الأخرى، والتي أحالت دوره الوسيط في التجارة، كما الخدمات التي كان يختص بتقديمها، على تنوعها وبراعة اللبنانيين بها وإتقانهم لها، أحالتها إلى ذكريات تعود إلى عهد ذهبي كان، للحق، خاطفا. اليوم، يرتهن لبنان واللبنانيون للمنطقة، و بات الحفاظ على مصالحهم فيها يتطلب قدرا كبيرا من السعي ومن... التواضع. وبخصوص المنطقة إذاً، فهذه لديها هموم أخرى غير لبنان، أو أشد تعقيدا وخطورة مما يخص لبنان: فإن نحّينا جانبا إستعصاء الوضع في فلسطين، فلعلنا نذكر العراق، حيث يقرر الإتجاه الذي يمكن أن تتخذه الأمور فيه الكثير من المصائر. ويعني ذلك، في جملة ما يعنيه، أن طاقة السلطات في البلدان العربية ومراكز حساباتها وتدخلاتها تقع في مكان آخر، وأن لبنان، شأنه شأن الكثير من المواضيع الأخرى، عنصر من عناصر الحسابات وليس عمودها. قد يكون ذلك بديهيا حين يعلن، لكن ثمة في سلوك القوى اللبنانية ما يشي بعكسه.

المنطقة برمتها تعرف عصفا ندر أن واجهت مثيله. ومما لا شك فيه أن إدارة الموقف من قبل كل واحد من أطرافها لا يمكن أن تجري إلا من منطلق كلي، يندرج فيه لبنان ومشاكله كبند يؤخذ بالحسبان حسب مقتضيات التوازن الكلي، دون أي أولوية. حقاً! أما الإعتبارات العلائقية أو العاطفية التي قد تحفز هذه أو تلك من الأطراف، فهي محدودة الأثر أولا، ويمكن أن يستهلك مخزونها عناد لبناني على البعد عن التعقل المطلوب.

إلا أن الأهم من هذا هو إمكان أن تتحول الصلة الحميمة بالبند اللبناني إلى عنصر قابل للتوظيف وفق إعتبارات المصلحة، الكلية هي الأخرى. ولعل مساعد وزيرة الخارجية الأميركية السيد ولش، قد إضطر إلى قسم أغلظ الأيمان خلال زيارته الأخيرة إلى لبنان، منذ أيام، لهذا السبب تحديدا. فهو قال مطمئنا الذين التقاهم، أن لا تسويات في المنطقة ستجري على حساب مصلحة لبنان. وهو كان ينفي إشاعات متداولة وليس مخاوف وهمية فحسب. ويمكن تأويل الهدوء الذي نسب إلى القرار 1644 لمجلس الأمن، بالمقارنة ربما مع التصعيد الكلامي الذي سبقه، إلى هذا. ويعني ذلك أن التفاوض على تسويات تخص الصورة العامة للمنطقة عملية غير قابلة للإنقطاع، أي جارية بإستمرار، وأن أطرافها متعددون، وأنها قد تتعثر أو تنجح هنا أو هناك، وتتحور وتتبدل حسب الزمن والتطورات. وأن لبنان ليس فحسب فقرة من فقراتها، تصغر أو تكبر حسب الظروف، وإنما قد يكون إستخدامه ملائما أحيانا لحل عقد تنتصب في طريقها. وهذا وارد وصحيح في ما يخص كل الإتجاهات، أي، وبلغة بسيطة، ضد سورية أو لمصلحة سورية، وذلك وفق الضرورات... تأكيدا لخلاف ما سعى الدبلوماسي الأميركي إلى نفيه. لذلك، فلا يعود مفهوما الهرج والمرج، والسخط، والرفض القاطع، الذي إستُقبلت به محاولة السيد عمرو موسى، أمين عام الجامعة العربية، إيجاد آلية للتعاطي مع الوضع اللبناني وعلاقته بسورية. كما لا تعود مفهومة ردود الفعل التي وسمت التعليقات على آخر المحاولات العربية للتدخل في الموقف القائم، مما وُصف بأنه يحتوي أفكارا سورية... أي: تلوث أين منه الإشعاعات النووية؟!

الطريف أن فريقا ديموقراطيا جدا من الفرقاء اللبنانيين يعتبر آراءه ومواقفه ممثلة للإجماع، ربما لأنه يظن أن الرياح تهب في وجهة تلائمه، وهو أمر يحتاج الى إعادة نظر، تدخل على هذا الظن تلوينا ونسبية قويين. أو أنه يعتقد أنه ينتسب إلى معسكر ضحايا مسلسل الإغتيالات الفظيع، وأن الدم المراق يمنحه حقا يتفوق فيه على سواه. وهو ينسى أن السياسة غالبا ما إختلطت بالعنف.

أما الإجماع فلا وجود له، لا في لبنان ولا في سواه، وأما ما يسعى إليه فهو صوغ توافقات تحظى بقدر من الملاءمة مع متطلبات الواقع فتحقق إجماعا عليها، هو إجماع إرادي، أي مشغول وليس بديهيا. والتوصل إلى ذلك مهمة صعبة دوما، وأول شروط مباشرتها التخلي عن إدعاء إمتلاك الحق المطلق، ثم التحلي بحس وطني عال لا يعتبر تحقيق المصلحة الذاتية يتم إنطلاقا من رؤية ضيقة لها، أو مباشرة، أو غنائمية. هذا عدا الرزانة المفتقدة بحدة تثير الإستغراب في الوسط السياسي اللبناني على العموم. وقد تميز البعض، فسعى الرئيس الحص إلى تلمس حلول وإقتراح أطر، لعل مواجهتها بالتجاهل يعود إلى»هامشية» موقع الرجل في البنى التي ترى نفسها فاعلة، أو وازنة، سواء منها الطائفية أو الحزبية. إلا أن السيد حسن نصر الله، الذي لا يعوزه أي منهما، ويمتلك سواهما من مميزات يفترض أن أهميتها - إن لم يكن جاذبيتها بالنسبة للبعض - لا تحتاج إلى برهان، كرر المبادرات والدعوات، التي لم تحرك، هي الأخرى، العقول حتى الآن، بل جرى إلتقاطها، أي إدراكها والتعامل معها، إنطلاقا من تلك الرؤية الضيقة إياها.

وهكذا إنزلق الوضع رويدا إلى المراوحة العقيمة التي تمتص آخر طاقات اللبنانيين النفسية والاقتصادية، وتجعل الحاضر والمستقبل يبدوان لهم محملين بالأخطار القاتلة. ولهذا يسود في لبنان اليوم جو مثقل بالهم والقلق: فعدا إكتشاف واقع أن تطور الموقف يرتهن بالكثير من العوامل التي تفوقه حجما وأهمية، وأنه ليس هو قطعا من يقود الأوركسترا، يكتشف اللبنانيون إدقاع معظم أفراد نخبهم السياسية، بين فساد أو رعونة او كليهما معا، علاوة على ضيق الأفق. فهل تفوت الفرصة تماما؟