أكثر الرئيس بشار الأسد من كلامه على «القلق» و«الطمأنينة» ومشتقاتهما، وهو يتحدث يوم السبت الماضي في افتتاح مؤتمر المحامين العرب في دمشق. ورغم أن الرئيس السوري أراد إيصال رسالة مفادها انه ليس «قلقاً أبداً»، إلا أن قراءة ما بين الحروف تشي بغير ذلك. ومقابل هاتين المفردتين الآتيتين من دمشق يستخدم الساسة اللبنانيون هذه الأيام وبإلحاح، مفردة «هاجس» أو جمعها «هواجس» كمرادف تخفيفي للقلق، وللتعبير عن توجس كل طرف من الآخر، داعياً إياه لتفهم حذره. لكن التشذيب والترتيب وانتقاء الألفاظ وتجميلها، لا يمنع المواطن اللبناني من الإعلان عن «الخوف» الشديد، ومن دون مواربة. فالتصريحات الديناميتية، التي لا تتمتع بأي ديناميكية، صباحية ومسائية، لا تترك مكاناً لحبور أو تفاؤل، رغم أن سياسياً لبنانياً من وزن سمير جعجع يرفض «التشاؤم» ويرى أن الأوضاع تتحسن في غفلة من الناس. وقد تكون للرجل وجهة نظره، لكنه يبدو وحيداً في انشراحه. وما بين قوى «8 آذار» الذين تظاهروا في ساحة رياض الصلح وفاء لسوريا، وقوى «14 آذار» الذين رفعوا شعارات «السيادة والحرية والاستقلال» في ساحة الشهداء، العام الماضي، ما يزال المواطنون اللبنانيون يتأرجحون في انتظار أن يردم الطرفان أسبوع النحس هذا الذي يبدو أنه أطول من درب الآلام وأشقى.

ثمة توافق لفظي على أن الجميع يريدون «الحقيقة» ويرغبون بشدة في أن يصل التحقيق الدولي إلى غاياته بأسرع وقت، لكن في المقابل، وهنا العجيبة، أن طرفاً يرى التحقيق نزيهاً صافياً كالماء الزلال، فيما يتهم الطرف الآخر التحقيق بكل المعايب. وهنا المفارقة بين الموافقة المعلنة والرفض المضمر.

أما عن «السيادة» فحدّث ولا حرج، وقد أحرجنا الرئيس السوري حين زايد علينا متحدثاً عن سيادة بلده التي هي أعلى من قرارات مجلس الأمن، فيما كان اللبنانيون قد جعلوا من «السيادة» كل همهم، وأغلى شعاراتهم، ومع السيادة هذه تبنوا «الوصاية». ففريق يذهب إلى سوريا لمقابلة الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد، فيما الفريق الثاني يجول بين واشنطن وباريس، باحثاً عن الاستقلال. والخشية أن تكون «السيادة» السورية في الكواليس حالها أسوأ من «السيادة» اللبنانية التي داستها أقدام الفرقاء اللبنانيين، الذين يتحدثون منذ عام كامل عن أهمية «الحوار». لكن المشكلة المستعصية، أن هناك من يقبل الحوار على أي طاولة كان، وغيرهم لا يرتضون أقل من طاولة مجلس الوزراء. وكنا نتألم لصراع دموي على «الكراسي»، وبتنا ننزف رعباً من خلاف حول نوعية «الطاولات» المطلوبة ليقبل الفرقاء الجلوس حولها.

وكان مذهلاً حقاً أن يشبه الأمين العام لحزب الله، السيد حسن نصر الله، نزع سلاحه بالاعتداء على «العرض» ومعتبراً إياه «قدس الأقداس»، لا لشيء إلا لأن العرض يقترن في المخيلة العربية باستدعاء الثأر، الذي أسال على مدى التاريخ العربي أنهاراً من الدماء. ولنكن صادقين فإن «العرض» العربي لا يناقش على «الطاولات» الإفرنجية. ولذلك فقد كان الجواب جاهزاً عند الزعيم الدرزي وليد جنبلاط، الذي قال إن هناك مقدسات وأعراضا لدى الجميع، وهذا أقل ما يمكن في بلاد ما تزال عصبياتها متوهجة ودماؤها فائرة. وبمقدورك أن تسمع فيها عن «قوى» و«زعامات» و«كتل» و«فئات» و«طوائف»، لكنك وإن سمعت عما تبقى من أحزاب فأنت نادراُ ما تراها بالعين المجردة، وكلمة «شعب» لقلة ما تستخدم، تكاد تندثر من القاموس، ويفضل المتكلمون أن يسموا هذا التجمع البشري القائم «اللبنانيين»، ربما ليكونوا اقرب إلى الواقع، في غياب كيان الدولة وقرار وطني جامع.

وإن أردنا التعمق أكثر وجدنا أن القضية هي في مفردتي «الولاء» و«الوفاء»، فإذا قال أحدهم الولاء للبنان رد آخر و"الوفاء لسوريا»، وبإمكاننا أن نضيف عليها ولإيران أيضا بعد مشاهد الاحتضان والقبل التي رأيناها من الرئيس الإيراني للزعيمين اللبنانيين حسن نصر الله ونبيه بري، قبل أن يصرّح بأن «جبهة جديدة اليوم تشكلت في وجه الاستكبار والتسلط»، متكلماً عن «أهمية استمرار المقاومة والوحدة والسلم الأهلي»، لكن جبهة الاستكبار والتسلط، هي أيضاً تريد للبنان ـ كما تقول ـ الوحدة والسلم الأهلي، وتضيف عليهما «الحرية» و«الاستقلال» و«الديمقراطية»، وهي كلمات لها مفعول السحر، لكن جبهة الصمود والتصدي لا تحب دلالاتها المشبوهة، ومعانيها المفخخة.

وليس صعباً أن يفهم اللبناني الذي ينقم على كل التيارات التي حرمته نعمة التيار الكهربائي، وتركته في الظلمة لسنوات ما تزال ممتدة إلى هذه اللحظات، فيما هي تضخه، صبحاً وعشية، بخطابات تخيره بين «المصلحة الاستراتيجية» و«التوافق الوطني» فلا يطال هذه، ولا يفوز بتلك. فلا أحد يصدق أن حلف الصمود عنده لبنان أغلى من دمشق وطهران، ولا مجنون يؤمن بأن السادة في واشنطن وباريس، لا ينامون الليل خوفاً على مستقبل ست الدنيا بيروت. وكل يرمي الطعم للباحثين عن سيادة العصبيات، فيجد الأفواه فاغرة، تتلقف الصنارة بشهية، بنية الحفاظ على المصلحة الوطنية. ولعبة «السيادة» و«الوصاية» يعرفها اللبنانيون منذ ولد بلدهم، ولم تباركه الشقيقة مولوداً معافى يستحق الحياة، ولم يصدق أهله أنه وهب عمراً يليق بالاستمرار. وليس غريباً والحالة هذه أن يطالعنا العدد الأخير من مجلة «الدولية للمعلومات» بعنوان كبير عريض على الغلاف يقول: «سياسة الدم 220 عملية اغتيال ومحاولة اغتيال منذ الاستقلال... ولا يزال الفاعل مجهولا».

فدود الخلّ منه وفيه، ومنطق القبائل في سوريا كما لبنان، يقتضي أن القاتل يقتل أو يعفى عنه، ولذلك فإما أن تغفر وتسكت أو تشهر سكينك وتقتل، وفي الحالتين، يقول «القلق» السوري إذا ما قرنته بـ«الهواجس» اللبنانية، وقارنت هذا كله بالتشظي العراقي، ترى أنك بين نارين، فإما دكتاتورية تفرض عليك «الثوابت الوطنية القومية» والجميع بات يعلم أنها تأتي بالغازي محمولاً على الأكتاف، أو ديمقراطية التشرذم التي تفلت معها كل غريزة من عقالها. وما بين «الثوابت» المختالة التي تحميها الأجهزة المخابراتية، والفوضى التي تستجلبها ديمقراطية محتالة، لك أن ترى هذه المنطقة المتأرجحة ما بين «الدفاع عن العرض» بكل موروثاته المعتّقة، و«الدفاع عن حرية الاقتراع» بمستجداته المستنفرة.