يقال ان جيلاً واحداً لا يستطيع القيام بثورتين، هل يمكن لجيل واحد، لبناني، أن يقوم بحربين أهليتين؟

لو طرح مثل هذا السؤال قبل سنتين أو أكثر لاعتبر هرطقة كاملة. فلبنان، برغم أزماته وتوتر علاقاته الداخلية، كان يبدو بعيدا جدا عن الأجواء التي توفر مبررات لقلق من هذا النوع.

كانت سوريا تؤمن الاستقرار وتستفيد منه. كانت تدير اللعبة السياسية الداخلية بما لا يؤدي إلى وفاق داخلي كامل ولكن، أيضا، بما يحول دون أي انفجار.

وعلاقات الطوائف والقوى السياسية اللبنانية ببعضها كانت مشوبة بتوتر ليس من النوع الذي يقود إلى انفجار. ولم يكن للاقتتال أي وظيفة داخلية أو إقليمية فضلا عن أن تسليما دوليا كان واضحا بأرجحية الدور السوري في لبنان.

وعندما جرى التحير قبل سنة من أن تجدد التجاذب حول لبنان، وتصاعد احتمالات الصراع الأميركي (والفرنسي) ـ السوري عليه، وبداية الضغط لانسحاب القوات السورية.

وبداية سلسلة الاغتيالات والتفجيرات، عندما أطلق التحذير قيل ردا عليه أنه تهويل يقصد منه منع عملية التغيير من أن تأخذ مجراها وأن تقود لبنان إلى الحرية والسيادة والاستقلال والاستقرار والازدهار. كان يضاف إلى ذلك أن أفضل علاقات ثنائية ستنشأ مع سوريا بعد انسحابها واستمرت هذه المعزوفة عالية النبرة حتى بعد سقوط الرئيس رفيق الحريري شهيدا.

كان ثمة لبنانيون فرحين بما يجري في بلادهم، لاهين عن مخاطره، مصدقين أوهامهم حول الوحدة المستعادة، مقللين من مخاطر الانقسامات، مراهنين على نوعية من الرعاية الدولية لا مطالب لها.

ولقد شكل هؤلاء البيئة الأساسية لأطروحات التفاؤل والخلاص الغريب واقتراب «موعد القطاف». لقد أنشأوا هرما من الافتراضات واعتقدوا أنهم سيطروا، أخيرا، على مصيرهم والمصير الوطني وسيقودون البلاد إلى شاطئ أمان بعد تذليل عقبات داخلية قالوا ان «الحوار» جدير بإزالتها.

لكننا نشهد مع نهاية 2005 وبداية 2006 تبدلا جذريا في المناخ العام، تكفي لملاحظة ذلك أن نقرأ الصحف ونشاهد النشرات الإخبارية التلفزيونية. المناخ، هذه الأيام، شديد التشاؤم.

تراجع الكلام عن وعود الدعم الاقتصادي، وعن نجاح الحريري في استشهاده بأكثر من نجاحه في حياته. لقد عادت مفردات ووقائع لتثير القلق:

الاتهامات المتبادلة بالخيانة والعمالة أكثر من ان تحصى، الشائعات اليومية تتناول السلاح الذي يوزع والتدريبات الجارية في لبنان وخارجه، الأقاويل تتحدث عن تولي ضباط سابقين إنشاء خلايا أمنية وعسكرية وعن عودة تشكيلات سابقة إلى الظهور، الأنباء تشير إلى بروز فرق دفاع مدني أهلية هي أندية الميليشيات اللاحقة.

يحصل ذلك على وقع اغتيالات وتعميم لوائح سوداء والتحذير من تفجيرات وتصريحات لسياسيين كبار عن تهديدات وحملات تعبئة يقوم بها قادة طوائفيون.

ليس غريبا، في لبنان اليوم، طرح السؤال عما إذا كان البلد متجها نحو مواجهات ذات طابع عسكري. على العكس، فالأخبار اليومية هي أخبار عن توتر في منطقة، أو اشتباك في أخرى.

انقطاع تواصل أو انسداد أفق التسويات. وهناك من يزعم، جادا أو مازحا، أن عناصر الاحتراب مكتملة وأن البلاد برميل بارود وأن التأخير الحاصل سببه أن أحدا لا يملك تصورا واضحا لطبيعة الشكل الذي ستتخذه الحرب الأهلية الجديدة.

أن يكون الاستعراض السابق مرعبا ليس سببا كافيا لعدم تصديقه أو لإسقاطه من أي حساب. صحيح أنه مرعب والأصح أنه صحيح.

إن العنف أو احتمال العنف موجود في طبائع الأزمات التي يعيشها لبنان وتعيشها علاقته مع سوريا. لسنا أمام أزمات سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية عادية. إننا، في الواقع، أمام مشكلات متصلة بالسلاح والقتال.

لنأخذ شعار «الحقيقة» مثلا وهو عنوان لتوتر العلاقات بين الأكثرية النيابية اللبنانية وبين سوريا. الشعار، شكلا، بريء ويوحي بتحقيق، ولجان تحقيق، ومحكمة دولية أو ذات طابع دولي، وإحقاق العدالة ومحاسبة المسؤولين. إلا أن الوضع الفعلي غير ذلك تماما أو أنه تطور إلى أن يصبح غير ذلك.

فمنذ أيام و«الحقيقة» تعني طلب استجواب رئيس الجمهورية السورية بشار الأسد فضلا عن أركان نظامه الأمنيين والسياسيين. بكلام آخر، تعني «الحقيقة» المس بالنظام وصولا إلى إسقاطه. ولقد أدى تدخل عبد الحليم خدام، وتصريحاته العلنية، وإفادته أمام لجنة التحقيق، إلى تأكيد المنحى المشار إليه. الموضوع ليس أقل إذا من تغيير النظام السوري.

لا يعود غريبا، والحالة هذه، أن يكون لبنان الحكومي والنظام السوري داخلين في نزاع بقاء لا يمكنه إلا أن يكون مفتوحا على استخدام العنف.

تقول بديهيات الحياة السياسية اللبنانية، وتؤكد التجربة التاريخية، أن لبنان لم يدخل في أزمة من هذا النوع مع سوريا وبقي محافظا على وحدته. وها هي بقايا الوحدة تتصدع.

ان اعتكاف وزراء من طائفة معينة هو تعبير بسيط عن المأزق. فما نشهده اليوم هو تصعيد لا سابق له للحملة على المقاومة، وتحشيد طائفي ضدها بصفتها أداة في يد طائفة لممارسة غلبة على الآخرين.

إن الموضوع الجوهري المطروح على لبنان عنوانه «سلاح المقاومة» ويكفي أن يكون هذا هو العنوان «السلاح» حتى يكون العنف كامنا في تعريف الموضوع وفي أي محاولة لحله خارج التوافق.

إن الأزمة السياسية التي اندلعت باسم توسيع التحقيقات الدولية وإنشاء محكمة دولية أصبحت بسرعة أزمة «سلاح» وأزمة أدوار عامة في تقرير شؤون البلد، وأزمة خلاف حول تحديد موقعه الإجمالي العام في المنطقة. وإذا كان إطلاق النار المتبادل كثيفا حتى الآن فهو لم يتحول إلى إطلاق نار حقيقي. ويمكن لمن أراد أن يتخيل معنى أن يركب البعض رأسه ويدخل في مغامرة نزع السلاح بالقوة!

نقترب، ربما، من ارتفاع دعوات بهذا المعنى تطال قوى لبنانية مسلحة تقوم بدور وطني. ولكن، في غضون ذلك، فإننا نعيش محاولات حثيثة لطرح موضوع السلاح الفلسطيني سواء داخل المخيمات أم خارجها.

من الطبيعي في مثل هذه الأجواء، أن تتحول حادثة معينة في منطقة حساسة (جنوب بيروت، بوابة الشوف، إطلالة على الضاحية) إلى نذير احتمال مواجهة تفيض عن الضبط.

قيل في بداية دخول لبنان مرحلة الاضطراب أنه لن يتجنب المأزق الكبير إلا إذا تلاقى قدر كبير من الحكمة الوطنية مع قدر ضئيل من الضغط الخارجي، وما يحصل حتى الآن هو العكس تماما: الحكمة ضئيلة والضغط كبير. فإذا استمر الوضع على هذا المنوال، وإن لم تحصل مبادرات أخرى، فإن السؤال المرعب سيلقى جوابا مرعبا.