نصر شمالي

وجهت السلطة الإسرائيلية تحذيراً للرئيس الفلسطيني محمود عباس من مغبة التعاون مع حركة حماس (6/2/2006) فهذه الحركة مصنفة أميركياً باعتبارها (الشيطان!) فإذا ما تعامل معها الرئيس الفلسطيني فسوف يصنّف باعتباره (الساحرة!) حسب مفاهيم القرون الوسطى الأوروبية التي كانت تحكم بالموت حرقاً على المتهمين بالسحر عبر التعامل مع الشيطان! إن التحذير الإسرائيلي يعني أن على الرئيس الفلسطيني الاتعاظ بمصير سلفه!

إنه لمن الواضح أن التفويض الواسع النطاق من الشعب الفلسطيني لحركة حماس عبر انتخابات نموذجية في ديمقراطيتها لم يشفع للحركة المجاهدة، ولم يسمح بتصنيفها في عداد الحركات الشرعية، وبالتالي لم يوقف حكم النفي أو الإعدام الصادر بحقها من قبل الإدارة الإمبراطورية العالمية الباغية.

في الواقع، لم توقف الإدارات الأنكلوسكسونية وحلفاؤها العمل بمفاهيم وقوانين القرون الوسطى الأوروبية، التي تعتبر المعارضين والأعداء سحرة وشياطين يستحقون الحرق واللعن، فقد شهد العالم، على مدى القرن العشرين وحتى يومنا هذا، شياطين وسحرة: ألماناً وروساً وأتراكاً وصينيين ويابانيين ثم عرباً ومسلمين! وكان التعامل معهم يتم بناء على التصنيف والتوصيف بجملة أو جملتين، من دون شرح ولا تفصيل، حيث السحرة والشياطين ينظر إليهم كذلك، ثم يجري تلفيق وانتزاع الدلائل والإثباتات التي تتطابق مع صفتهم المبتوت بأمرها سلفاً! إن المحكمة تأتي بالساحرة إلى القفص باعتبارها ساحرة وليس باعتبارها متهمة بالسحر، ثم تبدأ بإقامة ما يتفق مع تصنيفها، أي أن الحكم ضدّها يكون معدّاً ومبرماً سلفاً!

في عام 1960 كانت قصة الساحرة والشيطان قد بلغت ذروتها باستقرار نتائج محاكمات نورمبرغ التي نظمها الأميركيون وحلفاؤهم ضدّ الألمان إثر الحرب العالمية الثانية، وكانت قصة المعتقلات والمحارق الألمانية هي بالضبط قصة الساحرة والشيطان التي عرفتها القرون الأوروبية الوسطى، فالألماني عموماً مصنف مسبقاً باعتباره خليط من الساحرة والشيطان! يقول العالم الفرنسي روبير فوريسون: إنني أذكر حقدي الشخصي على الألمان خلال الحرب وبعدها، وكنت أظن ذلك الحقد العارم عفوياً، لكنني أيقنت مع مرور الزمن أنه كان تأثّراً من الخارج، يجيئني عبر الإذاعة البريطانية، ودعايات هوليوود، ولم يكن لديّ أدنى حسّ بالشفقة على أي ألماني يقول لي أنه كان حارساً في أحد المعتقلات لكنه لم يشاهد شيئاً من المجازر التي كان الجميع يتحدثون عنها، وفي ذلك الوقت، لو كنت قاضياً، لرأيت من واجبي إرغام ذلك الألماني على الاعتراف!

وكان الدكتور بروزات (المؤرخ اليهودي) يعتقد بصحة مذكرات رودلف هيس التي نشرت عام 1958، لكن هذا الرجل المستقيم اكتشف الأكاذيب المملاة على الضابط الألماني هيس، فأعلن لصحيفة دي زاي (19/8/1960) نفيه لوجود غرف الغاز النازية ، وبأنها مجرّد خرافة، وذلك في رسالة حملت عنوان: لم يعدم أحد بالغاز في داخاو! فكانت رسالة بروزات تاريخية، لأنها صدرت عن عالم من كبار المناهضين للنازية عن عقيدة، وباعتباره أحد المؤرخين الرسميين المرموقين! وتجدر الإشارة إلى أن الأميركيين وضعوا في ذلك العام بالذات (1960) أسس استراتيجية الحرب الذهنية، أي غسل أدمغة البشرية بما فيها الشعب الأميركي، ولاشك أن لوضع هذه الاستراتيجية، المعمول بها اليوم على أوسم نطاق، صلة بموقف المؤرخين المراجعين من خرافة الهولوكست، من أمثال بروزات، وفوريسون الذي كلفه موقفه حياته! وها قد رأينا بالأمس كيف أصدرت هيئة الأمم قراراً يحرّم مجرّد التشكيك بوجود المحارق المزعومة، أي أن استراتيجية الحرب الذهنية أتت أكلها على صعيد الحكومات في العالم عموماً!

بالطبع، كانت معسكرات الاعتقال الألمانية موجودة فعلاً، لكنها لم تكن خاصة بالألمان وحدهم، وقد وجدت أيضاً أفران حرق الجثث، غير أنها لم تكن عند الألمان فقط، بل عند جميع البلدان المتحاربة، فأفران حرق الجثث كانت وسيلة عملية متقدمة من الناحية الصحية، حيث وباء التيفوس المنتشر في جميع أنحاء أوروبا خلال الحرب العالمية الثانية كان يحصد الناس بعشرات ومئات الألوف، وإن القسم الأعظم من الصور التي عرضت على الأمم في أنحاء العالم ليست حقاً غير صور لجثث الموبوئين بالتيفوس، ومنها صوراً للمعتقلين وللسجانين أيضاً الذين فتك بهم الوباء! أما الأجهزة التي استعملت لتعقيم الثياب بالغاز فقد قدمتها أجهزة الدعاية على أنها أفران غاز لإعدام البشر، بل اليهود تحديداً وياللعجب!

لقد ورد في اعترافات الألماني رودلف هيس أمام محكمة نورمبرغ ما يلي: بعد نصف ساعة من إطلاق الغاز، كان يفتح الباب، ويدار جهاز التهوية، ثم يبدأ حالاً سحب الجثث! وقد راح هيس يشرح كيف أن فصيل الحرس الألماني الموكل إليه جرّ ثلاثة آلاف جثة من داخل غرف الغاز وإيصالها إلى المحارق، كان يفعل ذلك كله وأفراده يأكلون ويدخنون! بل ويفهم من اعترافاته المدوّنة أن الجنود الألمان كانوا يمارسون لعبة الغاز المميتة هذه من دون كمامات أو أقنعة واقية من الغاز!

كان رودلف هيس أحد ثلاثة قادة لمعتقل أوشفيتز جرى استجوابهم، وتركت اعترافاتهم وصفاً قصيراً لعمليات الإعدام (أو الإبادة) فيه إهانة للعقل الإنساني! وكانت مأساة هذا النوع من المتهمين الألمان تشبه مأساة الساحرات في القرون الوسطى، ولنتصوّر أية جرأة ينبغي أن تمتلكها الساحرة كي تقول للمحكمة: إن أقوى دليل على أنني لم أتعامل مع الشيطان هو، بكل بساطة، عدم وجود الشيطان!
يقول فوريسون: بالطريقة عينها، التي عوملت بها ساحرات القرون الوسطى، كان قليلاً جداً عدد الألمان الذين استطاعوا، أو تجاسروا على القول أن غرف الإعدام بالغاز لم يكن لها وجود على الإطلاق! لقد كانت الساحرة (المتهم الألماني) تلعب لعبة التحايل مع قضاتها فتعترف، مثلاً، أن الشيطان كان موجوداً، لكنه كان على رأس الجبل بينما هي كانت في السفح! كان المتهم الألماني يشجع نفسه كي يؤكد أن لا شأن له بغرف الغاز المزعومة، فيقول مرة أنه ساعد في دفع أحدهم إلى داخل غرفة غاز! أو يقول أنهم أرغموه بالتهديد فصبّ شيئاً من زجاجة، وأنه لو لم يطعهم لقتلوه.. الخ! والحال أن أولئك المتهمين لم يروا شيئاً على الإطلاق مما أريد إرغامهم على الاعتراف بأنهم رأوه!

لقد ساعدت خرافة الساحرة والشيطان الألمانية على اغتصاب فلسطين، وإعطائها لليهود بعد قتل أهلها وتشريدهم، وهاهو الشعب الفلسطيني والعراقي، وأبناء الأمة العربية والإسلامية عموماً، يعاملون اليوم، في ميادين المواجهة وتحت الاحتلال وفي سجون الأميركيين والإسرائيليين، باعتبارهم خليطاً من السحرة والشياطين!
وعلى أية حال فإن النازية، أيا كان تصنيفها ووصفها، ماتت بموت هتلر في 30/4/1945، وإن التلويح المستمر بخطرها، وخطر ما يصنف عنوة مثلها طوال الوقت، ليس سوى اختراعات أميركية صهيونية هدفها المتاجرة وكسب الأموال الضخمة وشنّ الحروب من أجل ذلك، وإن للكيان الصهيوني تحديداً مصلحة حيوية في اختراع مثل هذه الدعايات والتصنيفات، التي يعود إليها الفضل الأكبر في إنشائه عام 1948.