أحمد مهنا

فوجئ البعض لحدّ الصدمة بالقرار الروسيّ الصادر عن أعلى المستويات السياسية في موسكو بدعوة وفد من حماس لزيارة الكرملين ، وذلك عقب فوز الأخيرة بغالبية مقاعد المجلس التشريعيّ الفلسطيني . ومما زاد من هول المفاجأة جهر موسكو بالقول بأن نجاح حماس هو خيار ديمقراطيّ فلسطيني يحتم على المجتمع الدولي احترامه والاعتراف به . عندها ثارت التساؤلات وكثرت التكهنات حول التحليل المقبول والتبرير المنطقي لتلك اللفتة خاصة لما بين الطرفين من فجوة أيديولوجية وثارات قديمة وأخرى حديثة كفيلة بالوقوف حائلاً دون اتخاذ مثل هذا القرار . لكن الحقيقة المتمثلة في أن روسيا بوتن ليست هي روسيا برجنيف تخفف من شدّة الصدمة وتتيح مساحة أوسع للتفكير بطريقة هادئة دون انفعال ، ولأن ما يحصل في عالم السياسة من تقلبات ما هو إلا نتيجة لتقاطعات مصلحية مبنية على أسس محسوبة ومدروسة بصورة جيدة . نتج عن ذلك العديد من السيناريوهات لعل أبرزها اثنين :

السيناريو الأوّل

حلّق أصحاب هذا الرأي في فضاءاتهم وذهبوا إلى أن روسيا تمثل دور الأداة الغربية لجسّ نبض قادة حماس ودراسة ما يدور في أذهانهم من أفكار ، وسيقوم الكرملين بدور الوكيل بمحاولة إقناعهم بتفهم الشروط الغربية المبنية على أساس تفاهم دوليّ لا مجال لتخطيه أو التراجع عنه . سيقوم الروس على العمل بإيجاد مخرج لتخلي حماس عن صلب ما انتخبها الشعب الفلسطيني على أساسه ، وبالتالي تطويع قيادتها للقبول بالمشروع الأمريكي الهلاميّ لحلّ الأزمة . بعدها ستجد حماس نفسها بعد تقليم أظفارها وتهذيب مطالبها مقبولة لدى الأمريكان والأوروبيين ،و سترفع عنها سمة الإرهاب وسيسمح لها بالعمل كمنظمة إنسانية تعمل على رفع المعاناة عن شعبها فتأخذ بتوفير الطحين والزيت ولأرز والسكر على أن تنسى مقاومة الاحتلال والمطالبة بحقوق الشعب الفلسطيني المشروعة !!!

بذلك تكون موسكو قد قدمت خدمة جليلة للمشروع الأمريكي الإسرائيلي ، فإن نجحت في مشروعها فقد حصل الغرب على ما يريد ، وإن لم تنجح تكون قد أوجدت المبرر لضرب حماس وقلب ظهر المجنّ للديمقراطية التي أفرزتها . وتكون موسكو قد استحقت مقابل ذلك فتح خمسة مصانع جديدة لتعبئة الببسي كولا وتوسيع قاعدة الماكدونالدز والبورغر كنغ لتغطي معظم المدن الروسية والدفع بأربع مافيات لتبييض الأموال لنخر لا بل لذبح الاقتصاد الروسيّ !!!

سيعود وفد حماس في هذه الحالة من موسكو وقد أسرّ لقادتها بقبوله لتحفظاتهم دون إعلان لذلك على الملأ خوفاً على حماس من ردة فعل جماهيرها مستعينين على مصائبهم بالكتمان .

وهكذا ستبقى المنطقة على ما هي عليه من فرض لأجندة إسرائيل وتفردها باتخاذ القرار وستواصل سياسة فرض الأمر الواقع بما في ذلك من تغيير لديمغرافية المكان مسلحة بما للقوة من سلطان ، مستغلة بأعلى الدرجات لعامل الزمان .
عندها ستكون حماس قد ركبت مركباً تائهاً في عرض بحر السياسة الدولية ، الذي تتقاذفه الأمواج وبدلاً من محاولة إنقاذه امتطته فسارعت في إغراقه .

السيناريو الثاني

يدلّل أصحاب هذا الرأي على أفكارهم بمجموعة من المؤشرات المعاكسة كلياً لما تقدم ذكره حيث أن روسيا التي فقدت الكثير من هيبتها الدولية بعد تفكك الاتحاد السوفيتي السابق أخذت تفيق من غفوتها وها هي تحاول أن تعود للعب دور أكثر فاعلية على مسرح السياسة الدولية مذكرين بما لمنطقة الشرق الأوسط من أهمية استراتيجية عند الروس مهما كانت توجهاتهم وبالتالي يعمل الكرملين حالياً على العودة للمنطقة بطريقة سياسية ممنهجة تستطيع روسيا من خلالها تأمين مصالحها دون اللجوء إلى عامليّ التحدي أو المواجهة، عندها يكون الروس قد تجنبوا الأخطاء السابقة التي كلفتهم الكثير من الخسائر. سينتقم الروس لهزائمهم التي منوا بها في المنطقة عبر العقود السابقة ، فهم لن ينسوا ما حصل لقواتهم في أفغانستان حينما حصل التقاطع المصلحيّ بين التيار الإسلامي ممثلاً بالمجاهدين آنذاك مع الولايات المتحدة الأمريكية عندما استقبل الرئيس الأمريكي الأسبق ريغان قادة المجاهدين الأفغان في البيت الأبيض وعقد معهم صفقة وجّه بموجبها صفعةً للاتحاد السوفيتي لن تنساها روسيا أبداً .

يقر أصحاب هذا الرأي بأن روسيا اليوم تستقبل وفد حماس وهي تتلمس خدّها رداّ على استقبال الولايات المتحدة للوفد الأفغاني بالأمس فأبواب البيت الأبيض ليست أعلى ولا أكثر اتساعاً من أبواب الكرملين .

أما المؤشر الثاني الذي يدعم أصحاب هذا الطرح حجتهم به فهو تدخل روسيا لا بل اهتمامها الملفت للنظر بأزمة إيران النووية معتبرين ذلك تقاطعاً آخر تحقق روسيا من خلاله اقتراباً تدريجياً من المياه الدافئة التي كانت ولا تزال تحلم بالوصول إليها لتأخذ دورها في منطقة أطماع دولية كي يتسنى لها لعب دور أساسي في صنع القرارات الدولية .

المهمّ أن أياً ما كان من الطرحين هو الأقرب للصحة ، فما على زوّار الكرملين الجدد إلاّ التعامل معه بكل حكمة وموضوعية ، محاولين تجيير المواقف للحصول على نتائج أكثر ربحية في محصلتها وتوخي ما يحقق للشعب الفلسطينيّ أقصى ما يمكن تحقيقه من فائدة . ستكلل هذه الزيارة بالنجاح إذا لم يتشنج الحمساويون أيديولوجيا وفكرياً وعملوا بانفتاح كممثلين للشعب الفلسطيني وطرح الفئوية خلف ظهورهم لما في ذلك من تيسير لمهمتهم وجلب الاحترام لطروحاتهم وبالتالى دعم لمواقفهم .

أما آن لنا أن نخرج من دائرة ردّ الفعل إلى دائرة الفعل بكل حكمة وموضوعية ؟

أما آن لنا أن ننتقل من دور الأداة إلى دور المؤدي ولو لمرة واحدة ، في محاولة لتغيير الواقع والتمرد على ما هو كائن ؟

أظنّ أننا قادرون بشرط أن نمتلك الإرادة وحسن التخطيط .