د.رياض المالكي. (الراصد)

منذ اللحظة الأولى لفوز "حماس" التاريخي في انتخابات الـمجلس التشريعي، تبلورت أربعة احتمالات لشكل التركيبة الـمحتملة للحكومة الجديدة، لكنها وبسرعة فائقة تقلصت إلى احتمالين، ويبدو أننا وبشكل متسارع نتجه إلى اعتماد احتمال وحيد لا ثاني له، على الأقل في الـمرحلة الراهنة، نتيجة لغياب الوضوح السياسي لـما بعد الانتخابات، ونتيجة لغياب الانسجام التنظيمي لدى الحـزب الـمنهزم. تقلص الاحتمالات بهذه السرعة ليس مؤشراً إيجابياً، بل هو انعكاس لحالة التسارع السياسي الذي يحيط بالوضع الفلسطيني وتأرجحه بين العديد من الأقطاب الإقليمية والدولية الراغبة في خطفه وتجييره لصالح رؤى ومصالح مختلفة.

بعد أن استوعبت "حماس" مضامين انتصارها غير الـمتوقع على كل الصعد، وبدأت بالتفكير في تشكيلة الحكومة، عمدت فوراً إلى استثناء احتمالية تشكيل حكومة من "حماس" فقط رغم توفر الإمكانيات القانونية والـمهنية لذلك، وسمحت لنفسها وعبرها الكثير من الـمحللين للتركيز على بقية الاحتمالات الأخرى. إلاّ أنها، ومرة أخرى، عمدت وبعد فترة من الترقب والانتظار إلى اختيار الشيخ إسماعيل هنية لترؤس حكومتها الـمقبلة، منهية بذلك الاحتمال الثالث الذي توقع أن تتشكل الحكومة الـمقبلة من خارج الأحزاب السياسية، بحيث تقتصر فقط على (التكنوقراط) من الـمهنيين الـمستقلين، ما سيسمح بالتالي لـ "حماس" بالتركيز على دورها التشريعي الجديد بعيداً عن متاهات الحكومة واستحقاقاتها الـمتوقعة منها، خاصة ما يتعلق بالاعتراف بإسرائيل، والقبول بكل الاتفاقات السابقة، ونبذ العنف وتفكيك البنى التحتية لهذه الأذرع العسكرية التابعة للفصائل والأحزاب الفلسطينية. جاء قرار الحركة لينهي التداول في هذا الاحتمال، ويبعده مؤقتاً عن دائرة الخيارات الـمحتملة، بأمل إبقاء الباب مفتوحاً لاحتمالية العودة إليه في حال فشلت بقية الاحتمالات الـمتوفرة زمنياً وأداءً.

حاولت "حماس" ومنذ أن بدأت في التفكير الجدي لتشكيلة الحكومة أن تعطي الأولوية لحكومة ائتلاف وطني عريض يضم حركة فتح، ونجحت في إظهار رؤيتها الائتلافية أمام عيون الجمهور وابتعادها عن التفرد بالحكم واستعدادها، بل مطالبتها لحركة فتح بأن تنضم إليها في حكومة مشتركة للصالح العام، بل ذهبت أبعد من ذلك عندما اعتبرت أن "فتح" لا تملك أية خيارات أمامها غير الانضمام لحكومة وحدة وطنية لـما تمليه الـمصلحة الوطنية، ولضرورات الـمرحلة ولـمواجهة استحقاقاتها بشكل مشترك. ورغم رفض "فتح" الأولي لهذه الدعوة إلاّ أن حماس واظبت عليها محققة التقدير الجماهيري والاستحـسان. تأخـرت "فتح" في إدراكها أهمية الـمعركة الإعلامية التي تديرها بمهارة حركة حماس حول رغبتها في استقطاب "فتح" إلى شراكة سياسية في حكومة ائتلاف، وانتقل الـموقف الفتحاوي بشكل سريع إلى موقف يقبل بمبدأ الشراكة السياسية، ولكن ضمن ضوابط يحددها الإطار السياسي لبرنامج الحكومة القادم، كما جاءت تصريحات الرئيس عباس مؤخراً، بعد أن سبقه فيها كل من الدكتور نبيل شعث ورئيس كتلة "فتح" في التشريعي النائب عزام الأحمد، وعليه دخلت "فتح" لعبة العلاقات العامة لـمجاراة حركة حماس هذا الادعاء، مع يقينها بأن "حماس" لا ترغب في بحث أُطر سياسية وبرامجية بعيداً عن برنامج "حماس" الانتخابي، وطروحاتها السياسية. النتيجة الحتمية لـمثل هذا الـموقف هو التلاقي في الـمبدأ والاختلاف في التفاصيل، ما سيعيق حتماً إمكانيات التوصل إلى اتفاق مشترك، وينفي بالتالي احتمالية الحكومة الائتلافية مع "فتح". ما بين إصرار "فتح" على التزام الحكومة القادمة بكل الاتفاقيات الـموقعة وضرورة التوصل إلى قواسم مشتركة حول البرنامج السياسي للحكومة، وما بين إصرار "حماس" على الاحتفاظ ببرنامجها الذي فازت على أساسه في الانتخابات الأخيرة وإصرارها على موافقة كل الشركاء على ذلك البرنامج مع استعدادها لإدخال الحد الأدنى من التعديلات الهامشية دون التأثير على مضامينه الأصلية، لـم يعد لهذا الاحتمال من فرصة رغم إن إعلان وفاته لـم يصدر بعد، ورغم أن هناك البعض من قادة حركة فتح ممن ابدوا الرغبة في دخول حكومة ائتلافية مع "حماس" دون تركيزهم على الـمطالبة بالاشتراطات التي حددتها حركتهـم.

هذا الاستنتاج ينقلنا إلى الاحتمال الأخير الـمتبقي أمام حركة حماس في تشكيلها للحكومة القادمة، ويبدو أنه يمثل أفضل الاحتمالات وأنجحها من رؤية حمساوية، أمام الصعوبات القائمة والاشتراطات الـمطروحة للبحث. يبدو أن "حماس" تتجه نحو تشكيل حكومة عمادها قيادات وشخصيات الحركة، إضافة إلى ممثلين عن الكتل اليسارية الصغيرة، الـمستقلين وبعض الرموز الفتحاوية التي ستقرر الخروج عن موقف الحركة ودخول حكومة الائتلاف الـمصغر مع "حماس". هذه التركيبة ستعطي "حماس" ميزة الادعاء أنها حكومة ائتلاف وطني عريض، تتمثل فيها كل التيارات السياسية دون استثناء، إضافة إلى الـمستقلين و(التكنوقراط) من داخل وخارج الوطن. ليس من الـمفاجئ موقف بعض الكتل البرلـمانية الـمحسوبة على اليسار الفلسطيني سرعتها في الـموافقة على الـمشاركة في حكومة تتبنى برنامج "حماس" الانتخابي، وتعمل على تنفيذه بكل دقة، بحيث إن أي خروج عن هذا التنفيذ من قبل وزراء الكتلة (اليسار) يعني خروج تلك الكتلة البرلـمانية من عضوية الحكومة. انتهازية تلك الفصائل ليست بالجديدة، بحيث تدربت عليها بكل نجاح إبّان وجودها داخل منظمة التحرير، وبعد العودة إلى أرض الوطن نتيجة لاتفاق أوسلو. لقد أثبتت تلك الفصائل أن انتهازيتها راسخة وثابتة في رؤيتها الاستراتيجية وسياستها التعايشية لصالح من هو في الحكم، بغض النظر عن تغير الحاكم أو استبداله. هذه الـمرة فالاستبدال يعني خروج "فتح" ودخول "حماس"، ودائماً الانتهازية بانتظار ما هو جديد.

لن تجد "حماس" صعوبة تذكر في التعرف على مجموعة من كوادر "فتح" ممن لـم يحظوا بالفرصة التي طالـما انتظروها، وعليه لن يجدوا صعوبة في تبرير مشاركتهم في حكومة "حماس" مثلـما لـم يجدوا صعوبة في تبرير منافستهم مرشحي حركتهم الرسميين في انتخابات التشريعي بتقديم ترشيحهم كمستقلين، بحيث ساهموا عملياً في إفشال مرشحي حركتهم الرسميين، وبالتالي في إنجاح مرشحي "حماس". هذا الوضع سينقلنا، عملياً، إلى تركيبة حكومية عمادها حركة حماس، إضافة إلى ممثلين عـن تيارات متعددة تحمل أسماء مختلفة، لكن ما يجمعها للـموافقة على دخول حكومة "حماس" الجديدة ضمن برنامج اجتماعي ـ ثقافي ـ اقتصادي ـ مدني محدد سلفاً ضمن رؤية إسلامية صرفة تلغى فيه شخصيتهم الـمستقلة لـمصلحة بقائهم في داخل الحكومة، هو مصالحهم الضيقة، بحيث يتم كل هذا في مرحلة زمنية ليست بالبعيدة، لكي يفترضوا أن ينسى الناخب الفلسطيني أسباب انتخابهم للتشريعي وبرامجهم التي انتخبوا على أساسها.

واقع مألوف في السياسة الفلسطينية كما هو الحال مع سياسات دول أخرى أكثر عراقة في العملية الديمقراطية، لكن ما يثقل الصدور هو آلية تعاطي اليسار مع الواقع الفلسطيني في لحظات الظلـمة، وبتفسيرات لا تقنع أحـداً، بدل مواجهة ذلك الواقع والاعتراف بالعجز في تنفيذ برامجهم الانتخابية ومجاهرتهم بالواقعية لعقد السلام مع أنفسهم، على الأقـل. في الـمقابل ما يهم حركة حماس، مرحلياً، هو الشكل الترويجي، ومن ثم النتائج، خاصة أن الـمضمون قد أصبح مضموناً، بحكم الشكل النهائي الـممكن للتركيبة الحكومية القادمة.