د.إبراهيم حمّامي

عبّاس أبو الديمقراطية الذي صدعوا رؤؤسنا بفضله في إجراء الانتخابات وكأنها منة لشعبنا وليست حقاً أصيلا لهً، لتنهال التبريكات والثناءات عليه، وليُحمّل شعبنا "جميل" عباس في إرجاعه حقه له، عبّاس الذي واجه وتحدى عرفات عندما أصبح في منصب رئيس الوزراء المفصل على اسمه تحديداً دون غيره ليطالب بصلاحيات واسعة، وليحزن ويحرد ويعتكف في منزله ثم يستقيل احتجاجاً على تحجيم صلاحياته، عباس الذي قال الشهر الماضي في برنامج "لقاء خاص" على قناة الجزيرة يوم 02/03/2006 وبالنص: " أبداً أنا ما كنت أطالب به الرئيس الراحل ياسر عرفات لنفسي سأعطيه لحماس"، عبّاس نفسه يريدها اليوم حكومة طراطير تقود شعب من الأغبياء، ليصبح هو الديمقراطي الديكتاتوري الأول في فلسطين!

لا أعتقد أن عبّاس كان يوماً مؤمناً بالديمقراطية، بل أرادها وسيلة لتدجين حماس وتحجيم فتح ليسهل عليه تمرير مخططه، وما إصراره على إجراء الانتخابات إلا ظناً منه بتحقيق هذا الهدف، ولو ساوره شك ولو للحظة بفوز حماس لكان أول من وقف في وجه مشاركتها، وهو ما لخصه الكاتب إبراهيم أبو الهيجاء في مقاله الذي يحمل عنوان: "عباس و «حماس» إلى مواجهة" ليقول:

"أنجز أبو مازن ما تمناه و استطاع بديناميكية الانتخابات الفلسطينية البلدية و التشريعية ووضع حد لكل الذين آذوه و خونوه إبان توليه الرئاسة الوزراء ؛ و اليوم تحول أبو مازن من رئيس هش إلى طوق النجاة لحركة تلملم جراحها بعد الهزيمة القاسية التي تلقتها في الانتخابات الأخيرة ؛ وأصبح أيضا أمل المتصارعين على سلطتها والفاقدين لنفوذها وسطوتها ، ونستطيع القول أن أبو مازن استطاع بكل وضوح أن يعزز شرعيته وقوته قبالة هالة ميراث عرفات والمتورثين له ، لكن أبو مازن الذي أراد الاستنجاد بفزاعة " حماس " من خلال هذه الانتخابات للإستقواء و للنيل من النفوذ المتصارع والساخر من قدراته، لم يدر في خلده أن " حماس " يمكنها أن تحصد هذه النتائج وتصبح فزاعة له بدلاً أن تكون عنه ، بل و تهدد ليس فقط المناكفين لرئاسته بل و تزلزل منهجه الذي آمن بإمكانية التسوية مع " إسرائيل " ولتحصيل ما أمكنه أو يمكنه بأدوات التفاوض والمقاومة الشعبية أو" المعقمة " في أحسن الأحوال .
ظن أبو مازن الذي بناء على استشارة مراكز الأبحاث والاستطلاع أن الانتخابات الفلسطينية لن تنتج سوى معارضة حمساوية مشاغبة و في أحسن أحوالها معارضة خانقة ، تؤدي إلى خلق توازن يجعل المتورثين الجدد من حركة " فتح "، و بقايا ورثة عرفات يلجؤون إليه بصفته الرئيس القادر على إنقاذهم و الانتصار لضعفهم في التشريعي ... خلال ذلك يجري حشر " حماس " في الزاوية و تدجينها رويداً رويداً تحت قبة البرلمان و لاحقاً تخييرها بين شرعية السلاح أو شرعية البرلمان ... وربما لاحقاً خلق هزات داخلية فيها من خلال استقطاب أفراد أو تغذية مدارس متشاكسة أو طامعة". إنتهى الاقتباس.

لم يستوعب لا عباس ولا من معه حقيقة أن الشعب قد رفضهم ورفض برنامجهم، وأن الشعب قد اختار غيرهم بشكل حر ونزيه، فهو يصر على تطبيق برنامج أثبت عجزه وفشله بل وكارثيته، ويصر أن يتغير الجميع ليصبحوا "عبابيس"، ويتخذ من القرارت التي لا يحق له اتخاذها ما يجرد غيره من كل صلاحية، ليصبح هو الحاكم المطلق وفوق ذلك المرجعية المطلقة لكل شيء.

سلسلة من المراسيم والقرارات اتخذها عباس نستعرضها لنثبت مدى تعطش هذا الرجل ومن معه للتسلط – وليس السلطة – والتحكم والاستفراد بكل شيء، وتحت اسم الديمقراطية الزائفة كما يرونها، ليسيطر على أهم الصلاحيات، أو هكذا يظن:

• الصلاحيات المالية: عبر ربط صندوق الاستثمار الفلسطيني به مباشرة في ظل حصار مالي على حكومة حماس، ليصبح عباس المتحكم الأول بالأموال وبالتالي الرواتب التي تضمن الولاء بشكل أو بآخر
• تعيين نظمي مهنا مديراً عاماً للإدارة العامة للمعابر والحدود ليكون تابع له مباشرة وليتحكم بالمنافذ والصادرات والواردات بل وبحركة الأفراد بمن فيهم أعضاء الحكومة
• السيطرة الإعلامية عبر إلحاق التلفزيون والفضائية ووكالة الأنباء الفلسطينية بمؤسسة الرئاسة، وبالتالي حرمان الحكومة من أي منبر إعلامي رسمي
• تعيين رشيد أبو شباك مديراً عاماً للأمن الداخلي (الشرطة-الوقائي والدفاع المدني)، وهو ما يضمن السيطرة على الأجهزة الأمنية وبمشاركة تامة من قبل دحلان الذي يسعى جاهداً وبكل الوسائل لإثارة فتنة تسقط حماس، حيث أن ابو شباك هو من صبيان دحلان المخلصين ولا يتحرك إلا بأوامره
• التبعية المباشرة لجهازي الأمن الوطني والمخابرات لعبّاس شخصياً

هذا بالنسبة للمراسيم والصلاحيات المباشرة، التي لم تكفِ نهم عباس وجماعته في التسلط على الشعب الفلسطيني ومقدراته، بل أصبح هو شخصياً المرجعية لنفسه، أي من يراقب أعمال نفسه، وذلك من خلال جمعه للمناصب، وهو المبدأ الذي يتضارب مع أبسط قواعد الديمقراطية وفصل السلطات، ويتعارض مع ما كان يصرخ به في وجه عرفات متهماً اياه بأنه يجمع بين المناصب، لكن كلام الأمس يمحوه اليوم، ومهمة اسقاط الآخر والاستمرار في نهج التفريط والمساومة تهون في سبيله كل المباديء، كيف لا وعبّاس لا يترك مناسبة إلا ويطالب فيها بالاعتراف بالاتفاقات وبدولة الاحتلال.

عبّاس هو رئيس السلطة، وهو رئيس اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية المتكلسة المنتهية فاقدة النصاب والشرعية، أي أنه رقيب نفسه ان شطت السلطة وانحرفت، وما أكثر شططها وانحرافها، وهو أيضاً رئيس مجلس الأمن القومي الفلسطيني بمعنى أنه وبتعيين أبو شباك مديراً عام للأمن الداخلي وإن كان مخالفاً للقانون الأساسي حيث لا يحق له التعيين لكن قبول تنسيب وزير الداخلية الذي لا يحق إقالته إلا من خلال الرئيس بالرغم أنه يتبع وزارة الداخلية، بل إنه يستطيع أن يخالف قرارات الوزير و في هذه الحالة يتم الرجوع إلي مجلس الأمن القومي الذي يرأسه عباس، أي أنه الخصم والحكم!!

الأدهى من ذلك محاولته ربط النظام القضائي مباشرة به، ليعين هو القضاة والمحكمة العليا وبحسب الولاءات التي تناسبه، وهو ما حاول تمريره في جلسة التشريعي المنتهي الصلاحية يوم 13/02/2006، واستمات نواب فتح الجدد وعلى رأسهم عزام الأحمد في تثبيت قراراتها.

هذه هي الديمقراطية العباسية التي تجمع السلطات القضائية والتشريعية والتنفيذية بمرجعياتها، ليصبح عبّاس الحاكم الأوحد دون منازع، وليصبح مصير الشعب الفلسطيني وحقوقه وثوابته في يد أكثر من فرط في هذه الحقوق، ومعه رؤوس للفتنة تطل بين الفينة والأخرى في محاولة لاسترجاع ما فقدته عبر صناديق الاقتراع، كاللصوص الذين نخرجهم من الباب ليحاولوا العودة من الشباك.

هل ينجح عباس ومن معه؟ الإجابة ستكون حتماً نعم إن كنا شعب من الأغبياء تقودها حكومة من الطراطير، لكننا لسنا كذلك ولن نكون يوماً أداة للمتعطشين للسلطة وللتنازل عن الحقوق، وما محاولات عباس ومن معه إلا محاولات يائسة للوقوف في وجه إرادة الشعب بكل فئاته وألوانه، ولن يكون مصير محاولاتهم إلا كمصير كل ديكتاتور انتهى إلى حيث يجب أن ينتهي، ولو كان لديهم ذرة واحدة من كرامة لاستقالوا جميعاً بعد الفضائح المتتالية وآخرها مأساة سجن أريحا وإغتيال أبو يوسف القوقا.

قدر الله أن جاء لعبّاس بحكومة طويلة النفس واسعة الصدر، تتحمل الصدمات والضربات، ولها تجربة مريرة مع عتاة أوسلو، بل أن من أعضائها من عُّّذّب في معتقلات الأجهزة القمعية في التسعينيات، حكومة تلجأ للقانون والنظام الأساسي الذي وضعه من يخرقونه اليوم، ولا تلجأ لأساليب البلطجة والزعرنة المعتادة، والأهم شخصيات عرفت التواضع والحكمة، وهذا ليس من باب المديح أو الدفاع عنهم، فهم ليسوا بحاجة للأقوال فأفعالهم على الأرض تثبت ذلك، ويكفينا التذكير بأسلوب عبّاس نفسه في مواجهة صراع الصلاحيات مع عرفات وهو أسلوب الحرد الصبياني، وكذلك التذكير بأسلوب دحلان في الاعتراض عندما قاد زمرة من الزعران صيف 2004 ليتمرد على ولي نعمته تحت مسمى الإصلاح، وهو ما لم نشاهد له مثيلاً اليوم من قبل حكومة تتعرض لأكثر مما تعرضوا له في محاولة تحويلها لحكومة طراطير، وفي أحسن الأحوال حكومة "كناسة وحراسة".

لا يا عبّاس لسنا شعب من الأغبياء ولن نقبل حكومة طراطير!