نصر شمالي

مرّت جريمة سجن أريحا بكل فظاعتها كأنما هي لم تحدث أبداً، وكأنما الذي هوجم وكر للذئاب أو قفص للطيور، لا تستحق مهاجمته وتقويضه، واصطياد نزلائه بعد قتل حراسه مجرّد التعليق! وليس من ريب في أن عالماً يحدث فيه ذلك هو عالم يفتقر تماماً إلى العدالة، وليس من ريب أيضاً في أن الظاهرة الإسرائيلية هي التجسيد المكثف لزيف الادعاء بوجود مثل هذه العدالة، فهذه الظاهرة تؤكد أكثر من غيرها أن لهذا النظام الدولي وجهان: وجه ظاهري شكلي معلن، مغطى بمساحيق الديمقراطية وبألوان العدالة والدفاع عن الحقوق، ووجه عملي ميداني مضمر، بعيون نارية وحشية وأنياب حادة قاتلة!

إن الصيحات تتعالى في الهيئات الدولية طوال الوقت وبلا توقف مطالبة بتجريد لبنان من دفاعاته، لأنها ميليشيات يتعارض وجودها مع الحياة الديمقراطية! ومطالبة بترسيم الحدود وبتبادل السفراء بينه وبين سورية، لأن ذلك يتفق مع العدالة ويحفظ الحقوق! وتترافق هذه الصيحات مع استعدادات معلنة للتدخل الميداني من أجل تحقيق ذلك، لكن الجميع يعرفون جيداً أن هذا الصراخ يضمر معاني أخرى، وأن التدخل الميداني إذا ما حدث فسوف تكون له أهداف أخرى لا علاقة لها بتاتاً بالأسباب الشكلية المعلنة، تماماً مثلما حدث في العراق، حيث لا علاقة على الإطلاق بين الأوضاع التي تلت احتلاله وبين الأسباب التي أعلنت مسبقاً لتبرير الاحتلال!

هل الحقوق متداخلة فعلاً؟
ليست المحافل الدولية، التي تتظاهر بالديمقراطية وتتحدث عن العدالة وحقوق الإنسان، سوى أدوات تضليل وخداع، أقامها نظام عالمي عبودي الجوهر والممارسة، والغرض من إقامتها ومن لغوها هو إنهاك مليارات الضحايا وإضعاف مقاومتهم وتسهيل السيطرة عليهم واستعبادهم، وإهلاك بعضهم إذا اقتضت المصالح ذلك، وإلا فكيف لا تولي هذه المحافل أي اهتمام لمصير عشرة ملايين فلسطيني، وتلوذ بالصمت المطبق بينما عمليات تبديدهم قائمة على قدم وساق، وعلى مدار الساعة، بسجنهم وقتلهم وبالتأكيد العملي الميداني المستمر على أن مصيرهم هو التلاشي في القبور، وفي الشتات، وفي ظل الاحتلال الإسرائيلي العنصري!

هل يمكن القبول بما يقال عن أن ما يحدث لفلسطين هو استثناء وليس قاعدة في العلاقات الدولية؟ هل يمكن القبول بالتبرير الذي يقول أن القضية الفلسطينية تحديداً معقدة جداً إلى درجة يصعب معها الحسم في مسألة أي الطرفين على حق، وذلك بسبب تداخل الحق التاريخي فيها بين العرب واليهود؟ ولكن ها هو آرثر كوستلر، المفكر اليهودي الصهيوني، يكتب قبل أكثر من ثلاثين عاماً ما يلي: إن الغالبية العظمى من اليهود الباقين في العالم هم من أصل أوروبي شرقي، ومن ثم من أصل خزري، وهذا يعني أن أسلافهم لم يأتوا من وادي الأردن بل من الفولغا، ولم ينحدروا من كنعان بل من القوقاز، ويصير من المعتقد أنهم من الجنس الآري، وأنهم أوثق انتماءً وراثياً إلى قبائل الهون والبوجر والمجر منهم إلى ذرية إبراهيم واسحق ويعقوب، فإذا كانت القضية على هذا النحو ألا يكون مصطلح معاداة السامية خاوياً من أي معنى؟!

لقد قدّم كوستلر في كتابه (القبيلة الثالثة عشر) جميع الوثائق التي تؤكد ما ذهب إليه بصدد الخزريين الذين تهوّدوا في القرن الثامن الميلادي، وبالطيع لو كانت ثمة عدالة دولية فسوف يرغم الإسرائيليون على إعادة فلسطين لأصحابها، لكن ما حدث هو أن آرثر كوستلر وجد ميتاً مع زوجته عام 1976!

القرارات الدولية وليس يهوه!
في عام 1649، أي في منتصف القرن السابع عشر، كانت إنكلترا خالية من اليهود تماماً، ولا يهودي واحد! غير أن تطلعاتها الاستعمارية جعلتها تهتم فجأة باليهود من أصول أندلسية، الذين قدموا لأساطيل منافساتها الأوروبيات خدمات كبرى في أنحاء العالم، فكان أن صدر إعلان إنكليزي جاء فيه ما يلي: إن أمة انكلترا وسكان هولندا سيكونون أول الناس وأكثرهم استعداداً لنقل أبناء وبنات إسرائيل على سفنهم إلى الأرض التي وعد بها أجدادهم، إبراهيم واسحق ويعقوب، لتكون ميراثاً لهم إلى الأبد!

لقد صار هذا الإعلان حجر الزاوية في السياسة البريطانية ثم الأميركية حتى يومنا هذا، فهل يتركون كوستلر أو غيره يقتلعه، لينهار بناء الأكذوبة الإسرائيلية بمجمله؟ طبعاً سيقتل كوستلر وليس المشروع الإسرائيلي، مع أن المفكر المغدور، الذي زعموا أنه انتحر وزوجته، تحسّب لذلك فكتب يقول: أنا أعي – في المقام الأول – الخطر المتمثل في أن كتابي قد يفهم بخبث، باعتباره إنكاراً لحق دولة إسرائيل في الوجود، لكن هذا الحق لا يستند إلى الأصول المحتملة للشعب اليهودي ولا إلى الميثاق الأسطوري بين إبراهيم ويهوه، بل إلى القانون الدولي، أي إلى قرار الأمم المتحدة عام 1947، فأياً كانت الأصول العرقية للإسرائيليين، وأيا كانت أوهامهم عنها، فإن دولتهم قائمة فعلاً وقانوناً، ولا يمكن أن يؤثر (موضوع الأصول) في حقها بالبقاء، ولا في الالتزام الأدبي لأي شخص متحضّر (لاحظوا: متحضّر!) يهودياً كان أو غير يهودي بالدفاع عن هذا الحق!

غير أن مثل هذه التبريرات للذنب العظيم لم تعف كوستلر من القتل، وهو الذي نفى بالوقائع المادية الأساس الخرافي الذي شاده الإنكليز للدولة الإسرائيلية، فقرارات الأمم المتحدة عام 1947 ليست كافية، من دون الخرافات والأساطير، لتبرير إفناء عشرة ملايين فلسطيني يؤكدون كل يوم حقهم الذي لا يتزعزع في استرداد وطنهم، ويجعلون المشروع الصهيوني بعد عشرات السنين من قيامه، وعلى الرغم من الخرافات والأساطير القديمة والقوانين الدولية الحديثة، عرضة للانكفاء والانهيار في أول ظرف دولي مستجد مناسب!

متى تتحقق العدالة الدولية؟
لقد كان على آرثر كوستلر، كي يتجنب القتل هو وزوجته، أن ينحو منحى زميله الأميركي كولن شابمان، صاحب كتاب (لمن الأرض المقدسة، للفلسطينيين أم للإسرائيليين؟) فقد كتب شابمان يقول مخاطباً الفلسطينيين: إن حظكم تعيس! صحيح أنه من الممكن تفهّم معاناتكم، بسبب بعض مظاهر الظلم، ولكن على العموم فإن جميع ما يحدث أنتم سببه، لأنكم تناهضون اليهود منذ اللحظة التي ظهر فيه مخطط الرب لنقل اليهود إلى أرضهم. لقد صار رجاؤكم الوحيد هو القبول بالسيادة اليهودية، وانتظار كيفية الشكل الذي سيبارككم به الرب عبر اليهود، سواء أنتم أم العالم أجمع!

إن المخطط المزعوم هو ذلك الإعلان الإنكليزي الذي أوحى به الرب يهوه، الذي أصبح رباً إنكليزياً منذ نهوض البيوريتانيين في إنكلترا، لكن الدبلوماسي البريطاني جيمس نيل فسّر إرادة الرب، عام 1877، بطريقة أخرى ونجا من القتل، حيث كتب: إن احتمال أن يتمكن الإنكليز من استيطان فلسطين بالنجاح نفسه الذي استوطنوا به في أميركا الشمالية بعيد جداً، بسبب حرارة الجوّ، والصعوبات التي يقيمها العرب، وافتقاد الحماية الفعالة، وكثير غير ذلك! لقد اقترح نيل استخدام اليهود لتحقيق هذا الغرض بدلاً من الإنكليز، فكانت هذه القاعدة الاستعمارية الاستيطانية التي أريد لها أن تكون قلعة من قلاع الدفاع عن نظام عبودي عالمي يفتقر تماماً إلى الإحساس بالعدالة!

إن العدالة في العالم ستكون حقيقية قائمة فقط عندما تساعد المؤسسات الدولية عملياً في استرداد الشعب الفلسطيني لوطنه، أما قبل ذلك فلن تكون موجودة في أي مكان!