بعد اشتباكات ينطا بين الجيش ومسلحين فلسطينيين موالين لسوريا في 17 ايار الجاري، بات للوضع الفلسطيني في لبنان وجهان: الأول المشكلة المزمنة المتصلة بواقع المخيمات ومعاناتها الانسانية والاجتماعية وحق العودة، والاخر المشكلة المستجدة المتصلة بتردي العلاقات اللبنانية – السورية. وعلى غرار ما حدث قبل أشهر، فإن الإشتباكات الأخيرة أتت ترجمة مباشرة لتصاعد التوتر في العلاقات بين البلدين، بحيث أضحت المعسكرات الفلسطينية، أداة مؤثرة لزعزعة الإستقرار في لبنان ورداً سورياً على الضغوط الدولية على دمشق.

والواقع أن المؤشر الفعلي للترابط القائم بين التوتر الذي تفتعله المعسكرات الفلسطينية وأزمة العلاقات اللبنانية – السورية هو ملابسات المعالجة التي رافقت اشتباكات 17 أيار وحالت دون تصاعدها.

بعيد انفجارها والأوامر التي أعطيت الى الجيش بإرسال قوة مدرعة لتطويق تجمعات المسلحين الفلسطينيين، كان الأمين العام لـ"حزب الله" السيد حسن نصرالله يجتمع في دمشق بالرئيس السوري بشار الأسد، في لقاء غير معلن. وللفور تمنى نصرالله على الأسد المساعدة في وقف تدهور الوضع العسكري على امتداد الشريط الشرقي من حلوة الى ينطا. وكانت ترددت معلومات عن تعزيزات فلسطينية من وراء الحدود.

وخلال ساعات أمكن تطويق الإشتباكات بأن تراجع المسلحون الفلسطينيون الى الوديان الواقعة شمال عيتا الفخار، بعدما كان الجيش وسّع انتشاره على امتداد الشريط الشرقي. وبات المسلحون الفلسطينيون في تلك المنطقة على مسافة قريبة من الحدود اللبنانية – السورية. وكانوا قبل تقدّم الجيش وبسط سيطرته على المنطقة الممتدة بين حلوة وعيتا الفخار، يقيمون ثلاثة مراكز في حلوة ورابع في ينطا يُعرف بمركز البلايط، واثنين آخرين في قلعة إدريس ووادي الأسود. وقد اخليت المراكز الستة وباتت مواقع "فتح - الإنتفاضة" بزعامة "أبوموسى" تقتصر على الوديان المتاخمة للحدود اللبنانية – السورية والتي تشكّل ما يشبه خطوط التماس بين الطرفين. كذلك ثمة مركز لـ"الجبهة الشعبية – القيادة العامة" بزعامة أحمد جبريل بين كامد اللوز والسلطان يعقوب، الى تجمع عسكري آخر هو الأنفاق في الناعمة.

في حصيلة الأمر نشأ أمر واقع القى بثقله على الوضع الداخلي استناداً الى المعطيات الآتية:

أن سوريا الشغوفة بنظرية التجارب الناجحة السابقة، وإن مر عليها الزمن، تستعيد من خلال تنظيمي "أبوموسى" وجبريل تجربة "الصاعقة" التي أوجدتها عام 1969 وناطت بها لسنوات قبل انفجار الحرب اللبنانية عام 1975 مهمة أثارة الإضطرابات والفوضى وزعزعة الإستقرار في لبنان في صدامات عسكرية مع الجيش. وهي تنظيم فلسطيني كان يستمد أوامره من الجيش السوري، استخدمه السوريون بنجاح على امتداد السنوات تلك تارة ضد "فتح" وطوراً معها تبعاً لتطابق المصالح بين دمشق وياسر عرفات، وتارة اخرى ضد السلطة اللبنانية وطوراً معها ضد "فتح" عندما تحالفت دمشق مع "الجبهة اللبنانية" عام 1976. وتالياً رمى الدور الذي اضطلعت به "الصاعقة" الى تسهيل التدخل التدريجي لسوريا سياسياً ثم عسكرياً في الوضع اللبناني.

وهي تقريباً حال تنظيمي "أبوموسى" وجبريل اللذين تتمركز قيادتاهما في دمشق ويحظيان بتسليح سوري، أضف أنهما يرتبطان سياسياً مباشرة بقرار القيادة السورية. ولعلّ الأسباب التي حملت السلطة اللبنانية "القديمة" على تجاهل وجود معسكرات هذين التنظيمين الفلسطينيين وخصوصاً في أنفاق الناعمة خارج سلطة الشرعية اللبنانية انها كانت تحظى بحماية الجيش السوري في لبنان.

على رغم أن قيادة الجيش سارعت الى مواجهة الإعتداءات التي تعرّض لها، إلا أن تدخلاًت سياسية رفيعة المستوى لديها، شملت اتصالا أجراه رئيس الحكومة فؤاد السنيورة بها، أوقفت العمليات العسكرية بحجة أن ثمة حواراً لبنانياً – فلسطينياً دائراً منذ أسابيع ترجمة لقرار اتخذه بالاجماع مؤتمر الحوار الوطني بتجريد المعسكرات من سلاحها سلماً. الأمر الذي يعني ضرورة عدم تجاوز قرارات مؤتمر الحوار وفسح المجال امام السلطة السياسية لإنجاز هذا الحوار.

إن الجهة اللبنانية الوحيدة القادرة على محاورة تنظيمي "أبوموسى" وجبريل هي "حزب الله". ويبدو أنه صلة الإتصال الوحيدة بهما، في وقت تحاور السلطة اللبنانية التنظيمات الدائرة في فلك السلطة الوطنية الفلسطينية التي تواجه بدورها انقسامات تمثيلية بين "فتح" و"حماس"، ناهيك بأن وضع المعسكرات الفلسطينية خارج نطاق المخيمات في الجنوب والشمال يستمد فاعليته من وجودها على تخوم الحدود اللبنانية – السورية، وعبر هذه تتدفق الاسلحة والمسلحون بينما يشكل الجيش السوري ظهيراً لهم.

وقد حمل هذا السبب مسؤولين لبنانيين على مكاشفة ديبلوماسيين في دول كبرى استفسروا في الأيام الأخيرة عن مبررات عدم مواصلة الجيش حملته على المسلحين الفلسطينيين، بأن الأمر ربما دفع بالجيش الى أن يصبح وجهاً لوجه مع الجيش السوري الذي لا تبعد مراكزه عن تجمعات المسلحين الفلسطينيين سوى مئات من الأمتار.

وكانت هذه إشارة ضمنية أيضاً الى أن حل المشكلة يتطلب قراراً سياسياً أولاً، وأن لا قرار للمؤسسة العسكرية بتجريد التجمعات الفلسطينية من سلاحها عسكرياً ثانياً. أضف الى ذلك كله أن المشكلة ليست فلسطينية، وإنما هي وجه من تردي العلاقات اللبنانية – السورية. وغالباً ما عبّرت دمشق عن وجهة نظرها حيال هذه المسألة على لسان وزير الخارجية وليد المعلم ومسؤولين آخرين اذ ربطوا بين الضغوط الدولية على سوريا واهتزاز الاستقرار في لبنان.