هو ليس مشهداً فريداً في التاريخ أن تفضي المصالح الأنانية والضيقة لنخبة حاكمة الى انهيارات عامة ومروعة، وهو ليس حدثاً نادراً أن يرفض المتنفذون وأصحاب الامتيازات تقديم بعض التنازلات ويلجأون دفاعاً عن مكاسبهم والوضع القائم الى إشاعة أساليب القهر والاستبداد وخوض الصراع بالممانعة في إجراء أي تغيير جدي في طرائق وصور العلاقة مع الدولة والمجتمع

ما يحصل اليوم في سورية من متابعات وتحقيقات أمنية واعتقالات طاولت عدداً من المثقفين والحقوقيين ونشطاء المجتمع المدني أمر يندرج في اهاب هذه الحقيقة، ولا يحتمل سوى تفسير واحد هو تصميم السلطة على وقف الحراك المدني والسياسي المحدود، وتالياً قمع وإجهاض الأصوات الناقدة والمطالبة بالانفتاح والإصلاح السياسي التي بدأت تحظى باهتمام متزايد في أوساط الرأي العام وتسبب القلق الشديد عند أصحاب الأمر والنهي، وكمحاولة ربما متأخرة، تجربها السلطات السورية كي تظهر نفسها قوية لا تأبه لأي كان ومتفردة في تقرير أي شيء أو لتثبت للناس أن موقعها المسيطر وهيبتها السياسية لم يصابا بأي أذى بعد الأخطاء التي ارتكبت وفي ضوء الجديد الحاصل في المنطقة.

لقد تنازلت معظم الأنظمة الشمولية عن بعض مصالحها وامتيازاتها واستجابت لاستحقاق الانفتاح الديمقراطي وسارعت لتأهيل نفسها لعلاقة جديدة مع المجتمع، خصوصاً لجهة طي ملف الاعتقال السياسي وتربية النفس على قبول مبدأ التعددية واحترام الرأي الآخر، كما بادرت الى إجراء تعديلات خففت الى حد كبير من القوانين الأحادية الظالمة، لكن الأمور لا تزال على حالها في بلادنا إن لم نقل تسير نحو الأسوأ، فإلى متى تستمر الممانعة والمماطلة؟ وأين مصلحة الوطن في الاستمرار برفض الآخر ومنع إبداء الرأي وتجريم الاجتهاد والاختلاف؟! ألا يستمد الوطن عافيته وعزمه من حرية شعبه ومن وحدة وطنية تقوم على احترام تنوعه، أم ثمة من لا يزال يعتقد رغم عمق مآسي التجربة ودروسها المريرة بأن قوة الوطن هي فقط من قوة السلطة ومن تعاظم قدرتها على استخدام الأساليب الأمنية لقهر المعارضة وتسييد الرأي الواحد؟! وتالياً من له الحق في منع مثقفين سوريين ولبنانيين من التوافق على رسم صورة صحية للعلاقات بين البلدين، أليس ما يجمع الشعبين هو الأكبر والأعمق كما يقول أهل النظام وأين الشعارات التي طبلوا الأذان بها، عن "سوا ربينا" وشعب واحد في بلدين!

الواقع إن الطريقة التي عالجت فيها الحكومة السورية مبادرة إعلان بيروت دمشق، إذ تنذر بمزيد من تقدم الدور الأمني في الحياة العامة والإصرار على استخدام القبضة الحديدية ضد القوى الحية، فهي تظهر برهاناً جديداً على عمق وقوة المصالح الخاصة التي تدفع السلطات للسير عكس المنطق وضد الاتجاه الطبيعي لما هو مطلوب في معالجة أزماتنا وأمراضنا المزمنة وفي مواجهة مختلف التحديات.

والأنكى أن توجه الى المعتقلين وكالعادة تهم تتجاوز ذريعة الاعتقال نفسها وتثير السخرية والألم في آن، دأب القضاء السوري على استخدامها في مواجهة المعارضين تتعلق بنشر أخبار كاذبة والمساس بهيبة الدولة وسيادتها وزعزعة الشعور القومي في زمن الحرب، والانخراط في منظمات ذات طابع دولي، وهي تهم قد تصل العقوبة فيها الى السجن مدداً طويلة. ما يدل على أن إعلان بيروت دمشق ليس أكثر من ذريعة لتصعيد الدور الأمني ضد الرأي الآخر، وليس أكثر من فرصة لم تفوتها السلطات لإضفاء نوع من الشرعية على أسلوب القمع والمحاكمات والاعتقال وإشاعة أن هناك خطأ أو خللاً ما حدث واستدعى توقيف هؤلاء النشطاء وسجنهم، بما في ذلك تسويغ التهم الغليظة الموجهة إليهم!

بمعنى آخر فإن ما يجري هو موجة جديدة مركزة من الحصار والاعتقال تشهدها سورية منذ أشهر وطاولت العديد من الناشطين والشباب تحت تهم واهية وبغرض زرع مناخات الرعب والإرهاب ضد كل من يفكر في ممارسة حقه في التعبير عن آرائه وفي الدفاع عن الديمقراطية وحقوق الإنسان، وفي التضامن مع الشعب اللبناني.

يتذرع الإعلام الرسمي بأن هذه النشاطات تأتي في ظروف اشتداد حدة الهجمة والضغوط على سورية، وهي حجة قديمة دأبت السلطات ومنذ عقود على تسويقها لتسويغ القمع وتثبيت حالة الطوارئ والأحكام العرفية وحرمان المواطن من أبسط حقوقه، لكن المريح اليوم أن القاصي بات يعرف قبل الداني بأن مثل هذه الحجة لم تعد تنطلي على أحد وأن من يحمل رغبة جدية في الرد على الضغوط والتهديدات وكف أذاها، يجدر به أن يتوقف أولاً عن إطلاق دعوات الاستقطاب الحادة والمسطحة، مع السلطة أو ضدها، التي عطلت ولا تزال تعطل بناء قاعدة عريضة هي ضرورية ومطلوبة في مواجهة ميزان القوى المختل، وأن يعمل ثانياً لبناء عتبة من الثقة مع الناس برد المظالم الى أهلها ومحاربة الفساد والتمييز والكف عن حجب الهزائم بمزايدات وطنية أو قومية، وأن يسعى ثالثاً لصياغة علاقة جديدة ومتكافئة مع لبنان ومع بلدان الجوار جنباً الى جنب مع المسارعة لتحسين صورته عالمياً وتقديم تنازلات صارت أكثر من ملحة على صعيد الحريات واحترام حقوق الإنسان.

توقع المتفائلون في ضوء الفسحة أو الفرصة التي تتاح اليوم أمام السلطات السورية لالتقاط أنفاسها بأن هذه الأخيرة سوف تكون أول من يبادر لاستثمار الوقت المستقطع للانفتاح على المجتمع وقواه السياسية، خاصة وقد ظهر جلياً للعيان أن قوة الأوطان لا تقاس من قوة سلطاتها أو مدى تماسكها الأمني وقدرتها على بث الرعب والهلع في النفوس بل من بناء راسخ يستند إلى وحدة طواعية تقوم على أسس الحرية والديمقراطية واحترام الانسان.

لكن للمتشائمين رأي آخر، وربما هم على حق، إذ يجدون من الصعوبة بمكان تقدم المسؤولين السوريين صوب الانفتاح والإصلاح وتجاوز عقلية الماضي وأساليبه، فهم قد اعتادوا أسلوب القوة والقمع في السيطرة على المجتمع، وباتوا مطمئنين بأن العمل المجدي لدوام الهيمنة ليس التعاطي مع حقوق الناس بل الاستمرار في إرهابهم وفي ردع المواقف الناقدة وجديد النشاطات المدنية والسياسية، ويتساءلون أين تريدون أن نبحث عن التفاؤل، أفي السعي إلى تثبيط الهمم وتخويف البشر وتقويض دورهم في التصدي للأخطار الماثلة أمامنا، أم في تسييد لغة القسر والإكراه ونبذ الآخر وعدم الاعتراف بحريته وحقه في إبداء الرأي، أم نبحث عنه في الدعايات الرسمية التي تبدي إصراراً على الخيار الأمني واعتبار ما يحدث من اعتقالات هنا وهناك ومن ضغوط ومضايقات أمنية مساراً صحيحاً ينبغي الاستمرار فيه دون مراجعة أو تغيير؟!

يلمس أي مراقب للحياة السياسية السورية شدة ضعفها ومدى الانحسار الذي أصابها بسبب استمرار المضايقات الأمنية والاعتقالات المتفرقة، وجراء عودة حال الخوف أو لنقل الرعب التقليدي من أخطار العمل السياسي إلى سابق عهدها لتتملك نفوس البشر وتشل رغبتهم ودورهم في المشاركة بالشأن العام.

فليس الضغط الخارجي هو الخطر الوحيد المحدق بالبلاد، اللهم إلا إذا كان الغرض من المبالغة في إبرازه هو ابتداع ذريعة جديدة للتهرب من المسؤولية أو صنع مشجب على شاكلة الخطر الصهيوني لتعليق استحقاق التغيير السياسي المطلوب وتحنيطه، فثمة أخطار أشد وطأة وأثراً وأكثر فاعلية في تعميق شروخ المجتمع واحتقاناته وتعزيز دوافع يأسه وإحباطه وتالياً ضعفه، من أهمها استمرار عقلية الوصاية على المجتمع وعلى الآخر وغياب الحريات والتعددية السياسية وترهل مؤسسات الدولة والفساد وسوء الأوضاع الاقتصادية والمعيشية والتخلف العلمي والثقافي وفي القلب من كل ما سبق ظاهرة الاعتقال السياسي وسجناء الرأي.