عندما يطالب كاتب مثل حالي وبصيغة الاقتراح من خلال مقالة بأن يكون الحياد هو الحل بالنسبة الى وطنه (لبنان) والوطن الثاني للعرب (فلسطين)، فليس لأنه بعد اربعة عقود من الهم القومي والاهتمام الوحدوي سئم تكاليف النهج العروبي وحلم استعادة الوطن السليب، وإنما لأن منطق الامور يرى انه عندما يكون هنالك خطر محدق بالمصير وعجز عن العلاج لوضع اشبه بالمعضلة فشلت كل المحاولات لإنقاذه، فإن من واجب القادرين على التأمل واستنباط الافكار والاقتراحات ان يقولوا ما يدور في الخاطر منها، لأن اهل القرار ربما يحتاجون اليها وربما يتم الأخذ بها.. خصوصاً ان الظروف المحيطة بهم تجعلهم يعيشون حيرة من شأن فكرة عابرة او رأي يأتي من مصدر متجرد التخفيف من وطأة هذه الحيرة. وهذا ما حدث على سبيل المثال لا الحصر مع الرئيس جمال عبد الناصر عندما كان ما زال حديث العهد في الحكم وأقدم على تأميم قناة السويس من دون ان يحسب حسابات دقيقة لما يمكن ان تتسبب به الخطوة من أذى لمصر معتبراً ان المكسب المعنوي الوطني سيكون وفيراً وهذا في حد ذاته انجاز يعزز التوجه الثوري الذي بدأ في المحروسة... اي مصر. وعلى نحو ما سمعناه من زميلنا الكبير الاستاذ محمد حسنين هيكل فإن الدكتور محمود عزمي الذي كان في الخمسينيات من الكتاب والمفكرين المرموقين في مصر، وإن كان اسمه ليس ذائعاً كآخرين، رأى وبعدما كان عبد الناصر عيَّنه مندوباً دائماً في الامم المتحدة أن تداعيات التأميم ربما تكون في منتهى الخطورة، وهي جاءت خطيرة بالفعل، وانه استباقاً لحرب يمكن ان تشنها بريطانيا على مصر وخصوصاً ان القوات البريطانية كانت لا تزال في منطقة القناة، قد يكون اعلان مصر حيادها المطلق، مثل سويسرا، هو الحل المناسب للتخلص من القوات البريطانية ودرء خطر الحرب. لكن عبد الناصر لم يرحب بالفكرة وحجته في ذلك ان سويسرا ذات وضع خاص وان للدول الكبرى مصلحة في حيادها على صعيد الاستثمارات والخدمات ومنها على سبيل المثال لا الحصر الصليب الاحمر تقدمها سويسرا لدول تحارب بعضها. اما مصر فلا يمكن إبعادها بسهولة عن الحرب لأهميتها الاستراتيجية كمفترق طرق عالمي. ولا ندري كيف كان رد فعل الدكتور عزمي صاحب فكرة حياد مصر، إلاَّ اننا نفترض ان الرجل ككاتب رأى ان عبد الناصر بالحجة التي اوردها لا يقول ما يدور في خاطره من تطلعات في شأن الرغبة في التزعم والهيمنة كما هي حال ايران الآن وحال صدَّام من قبل. ومَنْ هذه تطلعاته يرفض الحياد لأن معنى ان تكون رئيس دولة محايدة ان تلغي الثورة والبرنامج الثوري ومعناه ان لا تتدخل في شؤون الآخرين. كما ان صيغة الحياد تعني ان لا تكون الرئاسة مدى الحياة او غير محددة بفترة زمنية (اربع او خمس سنوات او ربما اقل).

واذا كان عبد الناصر لم يأخذ بفكرة الحياد فهذا لا يعني انها لا تصلح كحل لمن يحتاج الى هذا الحل مثل «لبنان الصغير» و«فلسطين المصغَّرة».. مع ملاحظة ان الحياد لمن يقتنع بجدواه بالنسبة الى استقرار الوطن وطمأنينة الشعب لا يعني الانعزال عن المجتمع الدولي وفقدان حق العضوية في مؤسسات ومنظمات اقليمية ودولية مثل «الامم المتحدة» بدليل ان النمسا انضمت وهي في حالة حياد الى المنظمة الدولية عام 1955، كما ان فنلندا المحايدة هي الأخرى انضمت الى المنظمة في العام التالي فضلاً عن ان عضويتها في الاتحاد الاوروبي لم تشكل حيثية لإجبارها على ان تكون عضواً في الاحلاف العسكرية. والحياد لا يعني فقدان العضوية في «الجامعة العربية» وفي «حركة عدم الانحياز» و«منظمة المؤتمر الاسلامي»، بل ان العكس هو ما يمكن حدوثه، بمعنى ان صفة الحياد ستضفي المزيد من القبول للدولة التي اختارته وبحيث تكون الرعاية لها من الدول الكبرى والثقة بها من جميع الدول الاعضاء في المنظمة الدولية ومن دون التوقف عند أن النمسا وسويسرا وفنلندا دول قليلة عدد السكان والمساحة بالمقارنة مع الدول الاخرى وهي حالة شبيهة بـ «الوطن الصغير» لبنان و«الوطن الأصغر» فلسطين. وثمة ميزة اخرى يمكن ان يكتسبها كل من هذين الوطنين بسبب حيادهما وهي انهما يصبحان وسيطين نزيهين في الازمات العالقة والخطيرة احياناً بين الدول الشقيقة من نوع الأزمة التي تعيشها كل منهما الآن وتحتاج الى الوسيط الذي يتم مسعاه فلا تجده وذلك لأن هذا الوسيط ليس محايداً بما فيه الكفاية وإنما تتحكم في مسعاه أهواء وتعاطُف له احياناً صفة الانحياز الى طرف دون آخر.

وقد يقال: وما قيمة هذا الحياد بالنسبة الى كل من «الوطن الصغير» لبنان و«الوطن الأصغر» فلسطين اذا كانت الدولة المجاورة اسرائيل تملك السلاح النووي بما يعني انهما مستضعَفَتان في استمرار وغير قادرتين على حماية امن البلاد والعباد. والرد على ذلك هو أن سلاح الحياد هو في بعض جوانبه بأهمية السلاح النووي وانه في حد ذاته يشكل حصانة للدولة وإلاَّ فكيف لم تتأذ فنلندا المحايدة التي بينها وبين الدولة العظمى النووية الاتحاد السوفياتي (قبل التساقط وتَبعثُر الجمهوريات) حدود طويلة. والذي انتهت اليه الامور أن الدولة النووية العظمى سقطت بينما الدولة الصغيرة المحايدة صمدت وازدادت حياداً. وما قد تنتهي اليه امور اسرائيل عندما تجد أن جارتيها اللبنانية والفلسطينية باتتا دولتين محايدتين سترى ان المسالمة هي سر البقاء وان كل ما تقوم به لن يفيدها في شيء وان تسلُّحها سيفقد مبرراته إذ سيقال لها: ممن اذن الخوف وضد مَنْ السلاح. وإلى ذلك ان اسرائيل سترى وقد ازدادت رقعة القبول بها ان تعلن هي بدورها نفسها دولة محايدة وإن كان ذلك على درجة من الاستحالة، كون هذا المآل يتطلب طي صفحة النظرة التوراتية وبالمفهوم الصهيوني واعتماد نظرة واقعية تجاري ظروف العصر. وبالحياد الاسرائيلي لا يعود هنالك موجب للإبقاء على ارض غير المحتلة ولا على العداء مستحكِماً في النفوس.

وقد يبدو هذا الكلام الافتراضي حول الحياد مستغرَباً من جانب البعض وإلى درجة الاستهجان، بل وشبيهاً بالاستغراب الذي قوبل به كلام الرئيس التونسي (الراحل) الحبيب بورقيبة عندما دعا القادة العرب في الستينيات الى الموافقة على قرارات التقسيم وكان ذلك قبل ان تحدث حرب 5 يونيو (حزيران) 1967 ويصبح الطلب هو انسحاب اسرائيل من الاراضي العربية التي احتلتها بما في ذلك القدس. ثم تبين سنة تلو اخرى بعد الذي انتهت اليه تلك الحرب على الصعيد الجغرافي والتعامل بين العرب والمقاومة الفلسطينية وكذلك السلوك الفلسطيني عموماً ان الرجل بإقتراحه المشار اليه كان بعيد النظر بدليل ان عدم الأخذ به واعتباره خارجاً على التوجه القومي والوطني اتاح المجال امام القضم المستمر لفلسطين وإلى درجة انه لم يبقَ امام شعبها سوى ارتضاء الدولة المصغّرة المحايدة التي تريحه من المزايدات والمغامرات والمتاجرات. وينطبق الأمر على لبنان الذي، في حال لن يسلك طريق الحياد، سيبقى على نحو ما هي حاله منذ ثلاثة عقود ساحة لافتعال الحروب على ارضه استلاباً لإرادته واستغلالاً لضعف كرامات اهل السياسة الذين اخفقوا في صون الوطن واعتبروا الولاء للغير مسألة لا غبار عليها مع انها استهانة بالوطن تصل الى ما هو اقل من الخيانة واكثر من التفريط.

ونكرر القول ونحن نختم وجهة النظر هذه بأن الوضع المأساوي الذي يعيشه «الوطن الصغير» (لبنان) و«الوطن الأصغر» باعتبار ما سيكون (فلسطين)، يتجه الى المزيد من المأساوية اذا كان الأمر سيبقى على ما هو عليه حيث مسايرة الاطراف اللبنانية في المرتبة الاولى موزعة بين الشقيقة العربية (سورية) والأخت المسلمة (ايران) والمدعية الصداقة والرعاية والحرص (اميركا)، بينما الوطن في المرتبة الثانية. ومع تزايد السوء سيسلك الوطن الطريق في اتجاه الهاوية. ولا خلاص إلاّ بإعلان لبنان دولة محايدة لأن بقاءها سيكون في حيادها وستكون طمأنينة الشعب في ظل هذا الحياد. ولا موجب للخشية من هذا المصير ذلك ان الازدهار سيعم البلاد ويدخل كل بيت لأن المقومات موجودة بكثرة من الطبيعة الجميلة الى قدرة اللبناني على الابتكار.. الى التنوع المذهبي، فضلاً عن انه بـ «الحياد» لا تعود هنالك فرصة امام متزعمين يمارسون الزعامة بطقوس استعبادية ظاهرها ديمقراطي وحقيقة امرها نقيض ذلك تماماً. وهذا الذي حدث في ظل تجربة «الحوار الوطني» دليل على ذلك. وما يقال حول لبنان يقال حول «الوطن الأصغر» فلسطين الذي تتجاوز خصومة الاشقاء لبعضهم احياناً عداءهم للاسرائيلي الذي اغتصب الارض، وإلاّ فما معنى ان لا يتفق ابناء القضية الواحدة على الجلوس الى طاولة «الحوار» الذي يؤدي الى حلول تعطي ما للوطن للوطن وما لطرفي الصراع «فتح» و«حماس» للوطن ايضاً.. وعلى نحو ما يفعله الاسرائيليون. وبالنسبة الى المقومات والقدرات فإن لدى الفلسطينيين، عدا القدرة المذهلة على الصمود، الامكانات الكثيرة للابتكار. وبهذا الابتكار لا يعود يتسول المساعدة والرفق. فليتكل الشقيقان اللبناني والفلسطيني على الله ولترتفع صيحة المطالبة بالحياد عالياً وبذلك يرتاحون ويريحون وتُطوى صفحة الاحتراب والاذلال وتحل محلها صفحة بيضاء ونقية ببياض ونقاء ثلوج سويسرا والنمسا وفنلندا تلك الاوطان الثلاثة التي تنعم بكل ما يفتقده مثيلاها: «لبنان الصغير» و«فلسطين المصغّرة».