بلغت المواجهة بين ايران والغرب حداً بات السؤال الرئيسي المطروح فيه: متى تندلع الحرب بينهما؟ أو متى تُطبق على ايران اميركا ومعها اسرائيل وبعض اوروبا علانية وغير اسرائيل من دول الشرق الأوسط سراً: اطباقاً لانهاء اسطورة تلك " الدولة المارقة"على الارادة الاميركية والمشكلة اليوم "رأس محور الشر" على المصالح الاميركية في الشرق والعالم؟ متى يكون الاطباق وتكون الحرب المدمرة التي ترتاح اميركا واسرائيل بعدها من خطر يتهدد المشروع الاميركي في المنطقة الذي لم يستطع رغم الاعوام السبعة عشر الماضية من العمل المباشر وقبلها فترة اطول من العمل غير المباشر، لم يستطع النجاح بل بدأ يترنح وهو اليوم اقرب الى الخسارة منه الى الربح.
وفي خضم الملاحقة لاستعدادات الاطراف، يطرح سؤال في هذا المجال: هل ان حرباً تقررها اميركا أو اسرائيل ضد ايران هي الحرب الممكنة والمنفذة من غير اذى يمس من هاجم بشكل يجعله يتردد في اتخاذ قرارها؟ أو ان في الامر ما يردع عن الدخول فيها؟
في المفاهيم العسكرية نقول ان الدفاع هو المواجهة التي يبديها الخصم في وجه المهاجم، وينهك فيها قواته ويستمر فيها الى الحد الذي يقنع الخصم-المهاجم بان هجومه بات باهظ التكاليف الى الحد الذي يفوق قدراته على التحمل، أو يتعدى امكاناته المخصصة للعملية، فيتوقف عن الهجوم قبل تحقيق الاهداف. وفي المفاهيم ذاتها ما هو اهم، وهو ما من شأنه ان يمنع المهاجم اصلاً من اطلاق هجومه، أو يمنع المستهدف بهجوم من استعمال قدراته في المواجهة بسبب عدم الجدوى منها. وهو ما يسمى "قوة الردع " التي تحدث بعد امتلاك الخصم القدرات التي تمكنه من الرد الموجع على هجوم قد يستهدفه، رداً يكون بالحجم الذي لا يستطيع من يخطط لهجوم ما تحمل اعبائه. اي امتلاك القوة التي تزرع في ذهن الخصم الخشية والرعب من الرد فيمتنع عن فتح باب المواجهة.
ولذلك تعتبر قوة الردع في معرض الدفاع دفاعاً من غير قتال، وفي الهجوم طريقاً للنصر من غير ثمن يذكر. و"قوة الردع " بذاتها تكون كلية مطلقة أو جزئية محدودة، وفي الأولى تكون بالحجم الذي من شأنه ان يمنع التعرض لمصالح الجهة الممكن استهدافها خشية الرد العنيف الذي يجعل المتعرض يخسر اضعاف اضعاف ما يحلم أو يقصد الحاقه من ضرر. هنا تكون "قوة الردع" هي الحارس المعنوي الذي يظلل المصالح ومفردات مالك القوة تلك من غير ان يكون هناك وجود عسكري مباشر لصيق بهذه المصالح وهذه العناصر، كما هي الحال مثلاً بالنسبة لاميركا التي لم تضطر الى زرع جندي في كل مكان في العالم لها فيه مصلحة لينفذ قرارها ويحفظ مصالحها تلك. فكم من سفير اميركي يحكم دولاً من غير ان يكون فيها لاميركا وجود عسكري.
اما قوة الردع الجزئية فقد تكون في باب أو اكثر من ابواب المواجهة العسكرية، كما كانت حال اسرائيل حيال الدول العربية، حيث ان وجوه الردع تمثلت في عدم تجرؤ جيش عربي على استهداف المناطق الاسرائيلية خشية رد الفعل الاسرائيلي على الاعماق العربية. وايضاً كما كان رد فعل بعض القوى العسكرية التي امتنعت عن المواجهة الفعلية لهجوم اسرائيلي معين لاقتناعها بقدرة المهاجم على حسم المعركة، وان مواجهته لن تكون ذات جدوى. ولذلك كنا نقول ان الجيش الاسرائيلي كان ينتصر بتاريخه وهيبته التي مكنته من امتلاك "قوة ردع" عالية وجعلته في ذهن الناس "الجيش الذي لا يقهر" والتعبير الحقيقي هو الجيش الذي لا يواجه حتى يقهر.
لقد امتلكت اسرائيل حتى العام 1982 قوة ردع شبه تامة، ولولا ما حصل في حرب العام 1973 لقلنا تامة. ولكن بعد صلح السادات الرئيس المصري في العام 1977، باتت قوة الردع تلك تامة ما جعل اسرائيل تنفذ حروبها بشكل سياحي كما حدث في لبنان مرتين في العام 1978 والعام 1982 (باستثناء المواجهات البطولية للجيش السوري في السلطان يعقوب في البقاع)...
لكن بعد ذلك انطلقت المقاومة في لبنان وارغمت اسرائيل على اعادة الانتشار فيه مرات متلاحقة، ثم الانسحاب منه في العام 2000 من غير تحقيق اهداف سياسية ونعلم ان الحرب لا تكون الا من اجل الاهداف السياسية والاقتصادية والاستراتيجية فليس هناك حرب من اجل الحرب. وبغياب ذلك نستطيع القول ان اسرائيل خسرت في لبنان في مواجهة المقاومة، اي ان ما كانت تملكه من قوة رادعة تمنع الخصم من المواجهة تآكل الى الحد الذي افسح في المجال امام "تجرؤ المقاومة" على مواجهتها ثم هزيمتها. ولما حاولت اسرائيل معاقبة من هزمها لترميم قدرتها الردعية في العام 2006، تفاقم الوضع وتضاعفت الخسارة. واقفلت الاعمال العسكرية على واقع يقال فيه: "فقدت اسرائيل قوة الردع التي امتلكتها منذ انشائها"، وبات الهم الأول امامها اليوم هو استعادة ذلك قبل اي شيء آخر اذ بدونه تكون عرضة لحرب قد تشن عليها في اي لحظة يأنس عدو لها من نفسه قوة تمكنه من الهجوم، وهذا ما يفسر اليوم الاضطراب الاسرائيلي في مواكبة ما يجري من تحضير واعداد للطاقة العسكرية السورية والايرانية. حيث تعتقد اسرائيل ان الهيبة التي كانت لها وتمنع أياً منهما من مهاجمتها زالت بعد هزيمتها امام المقاومة في لبنان.
وبات الايرانيون والسوريون يرون في تجربة لبنان 2006 مصدر غنى كبير في اي مواجهة مرتقبة، تجربة يؤخذ بها وتعزز ما لديهم من قدرات ردع خلافاً لما حدث في اسرائيل بعد تلك الحرب. فعندما خشيت اسرائيل قبل اكثر من عشرين عاماً من احتمال امتلاك العراق السلاح النووي اغارت على المفاعيل النووي العراقي ولم تتردد لحظة في تدميره لانها كانت مطمئنة الى ان صدام حسين لن يجرؤ على الرد عليها لانها تمتلك القدرة التي تردعه عن ذلك. اما اليوم ورغم كل ما قيل ويقال عن الملف النووي الايراني الذي بات يشغل الغرب وعلى رأسه اميركا، فانها تمتنع حتى الآن عن التعرض بالقوة للمنشآت الايرانية النووية لانها باتت على يقين ان ايران تمتلك من قدرات الرد على العدوان ما يجعل اسرائيل في وضع يصعب عليها تحمله. وهنا يطرح السؤال الثاني لمن قدرة الردع اليوم في الشرق الأوسط: لايران أم لاسرائيل؟
في هذا الجو من علامات الاستفهام قام الطيران الاسرائيلي ليوجه في 6 ايلول الماضي رسالة جوية عبر سوريا تقول ها قد استعدت قدرتي الردعية. وتجيب ايران مباشرة بعرض عسكري تقدم فيه الكثير من الاسلحة ولكن الاهم في ما قدم وفي ما يعني الاجابة هنا مباشرة امران الأول الطائرة "القدر" التي اعلن ان لها من الخصائص ما يوازي الطائرة في "فـ18" أو "اف 16" الاميركية، اي الطائرة ذاتها التي تمتلكها اسرائيل والتي تفاخر بها والتي استعملتها في طلعتها الجوية فوق تركيا وصولا الى قرب دير الزور في سوريا. ثم كانت المفاجأة الاهم عرض صاروخ ارض- ارض مداه 1800 كلم. يمكّن ايران من الوصول بالنار الى آبار النفط وطرقه عبر باب المندب عند البحر الاحمر، والى قناة السويس، والى كل فلسطين المحتلة طبعا، والى كل القواعد العسكرية الاميركية من غرب تركيا الى شرق افغانستان وباكستان. واذا تذكرنا الحلف الاستراتيجي القائم بين سوريا وايران، وما يروّج ايضاً عن امتلاك سوريا منظومة حديثة من الدفاع الجوي الروسي، اضافة الى امكان نشر الاسلحة الايرانية الحديثة على اراضيها، لتوسع فوراً ميدان القدرة على الرد والقدرة على الحاق الاذى الموجع فعلاً باميركا واسرائيل. دون ان ننسى ما بات مألوفاً قوله من استعداد سوري وقبله ايراني لحرب النمطين أو الحرب غير المتكافئة.
ان هذا الواقع تعلمه اميركا واسرائيل والاعلم منهما به والاشد خوفاً منه هو الاتحاد الأوروبي. عِلم قاد الرئيس الفرنسي ساركوزي اخيراً الى ابداء حساسية شديدة لمجرد استعمال كلمة حرب لانه لا يريدها ولا يرى جدوى منها في التعامل مع ايران على اساسها. لذلك نعتقد ان حرية العمل العسكري الغربي والاميركي - الاسرائيلي في الشرق الأوسط وضد ايران وسوريا تحديدا لم تعد قائمة كما كانت قبل سنين، اذ طرأ على الامر ما غير وجهه لا بل جوهره، حيث ان اسرائيل فقدت ما كانت تمتلك من قوة رادعة، ولن تكون غارة جوية أو طلعة استطلاع جوي كافية للايهام باستعادتها. ولم تعد اميركا اليوم اميركا أوائل التسعينات التي تنطلق لاقامة امبراطوريتها الكونية بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، خاصة انها تنهك في العراق وافغانستان الى الحد الذي اقام الجدل في الداخل الاميركي حول جدوى البقاء هناك، والقدرة على تحمل الخسائر من بشرية أو مادية. وهذا يُفسّر لدى الاستراتيجيين بطريق غير مباشر مضمونه الرفض الاميركي الضمني لاستراتيجية الحرب الاستباقية والاحتلال المباشر التي اتبعت حتى الان من قبل اميركا.
ان هذا العلم الغربي والاسرائيلي، بواقع حال "محور الشر على المصالح الاميركية"، يجعل الجميع يمتنعون عن توجيه الضربة العسكرية الى ايران وسوريا ويؤدي الى القول باختصار لقد نجحت ايران في امتلاك قدرة الردع التي تحميها وحلفاءها الاستراتيجيين من حرب جديدة. قدرة لم تكن قائمة في 1980 ما اغرى صدام حسين بمهاجمتها وخوض حرب معها لمدة 8 سنوات دمرت فيها معظم القدرات.
ان قوة ردعية دفاعية مكنت احمدي نجاد ان يقول في الامم المتحدة اننا لا نريد الحرب مع اميركا ولن يكون لنا حرب معها، في الوقت الذي يعتلي منبراً في جامعة اميركية ويقول اننا سنستمر في برنامجنا النووي السلمي ولن نذهب الى قنبلة نووية لسنا بحاجة اليها لاننا امتلكنا من القوة الرادعة ما يحمي ايران ومصالحها وهذا هو المطلوب. في المقابل نجد اسرائيل تستغل اي حدث أو سلوك وتحاول تضخيمه لايهام مجتمعها باستعادة قوة الردع المفقودة ولكن سرعان ما يأتي الجواب من الداخل الاسرائيلي بعكس ذلك. واقع يقود الى القول من امتلك قوة الردع حمى نفسه من غير استعمال النار ويصادق على القول من اراد السلم استعد للحرب.

مصادر
النهار (لبنان)