في الاسبوع الذي يقرأون فيه في الكنس اليهودية وصايا سيدنا ابراهيم الذي يناشد الرب بأن لا يفرض عقوبة جماعية علي سكان سدوم، قرر جهاز الأمن في اسرائيل فرض عقوبات شديدة وقاسية علي سكان قطاع غزة؛ وازعاجهم من خلال قطع التيار الكهربائي عنهم وتقليص إمدادات الوقود المرسلة اليهم. درجة الاقناع التي حاول إيهود باراك ومستشاروه إظهارها، ليست مطلقة، خلافا للحكاية التوراتية القديمة. هم يعتبرون الخطوة تجربة : اذا نجحت ـ فهذا جيد، واذا لم تنجح ـ فسيفكرون بشيء آخر.
ايضا عندما يتم تجاهل المغزي الاخلاقي المترتب علي القرار، ويركزون علي المنفعة المترتبة عليه فقط ـ سيكون الاستنتاج انه يتوجب الغاؤها فورا. من تقرير آفي يسيسخروف وعاموس هرئيل أمس الاول في صحيفة هآرتس ، يتبين أن الجيش الاسرائيلي يوصي بالعقوبات وهو يعرف سلفا أنها لن تحقق هدفها المعلن: ايقاف الصواريخ والقذائف. العقوبات الجماعية القوية ترمي الي تحقيق هدف آخر: اعداد الرأي العام للعملية البرية الكبيرة والطويلة في عمق القطاع، واقناعه ـ خصوصا سكان سديروت ومحيطها ـ بأن الجيش الاسرائيلي يبذل كل ما في وسعه لمنع اطلاق صواريخ القسام.
هذا الدافع هو اعتبار غريب تقريبا في السياق المقصود: اذا كان جهاز الأمن يعرف من البداية أن الوسيلة الشديدة التي ينوي استخدامها غير قادرة علي تحقيق هدفها، فلماذا يقرر التوصية باستخدامها رغم ذلك؟ هذا السؤال يزداد إلحاحا وأهمية عندما يكون القائد الذي يتصدر هذا القرار هو إيهود باراك، الشخص الذي اتهم اولمرت وحكومته (قبل انضمامه اليها) بالتهور في اتخاذ قرار الخروج لحرب لبنان الثانية. هذا الشخص ينظر ببرود أعصاب وانعدام عقل للتحرك عسكريا وسياسيا في هذه الظروف الحساسة التي تمر بها الدولة.
التجربة تشير الي أن العقوبات البيئية بأشكالها المختلفة، التي فرضتها الدولة علي الجمهور الفلسطيني، لم تؤد الي النتائج المرجوة: لا الحواجز ولا الاغلاقات ولا الضغط الاقتصادي. علي العكس هذه الوسيلة زادت من دافعية التنظيمات الارهابية لضرب اسرائيل وتوسيع دائرة الانتحاريين الراغبين في الانتقام منها.
الأمر لا يتوقف عند ذلك، إذ أن العقوبات الجماعية تضر بصورة اسرائيل وتثقل علي وجهودها ومساعيها للحصول علي التفهم الدولي لموقفها في الصراع الدائر مع الفلسطينيين. المنطق السليم يشير اذا الي الامتناع عن الحاجة الي هذه الطريقة، ناهيك عن استخدامها بصورة متطرفة.
بكلمات بسيطة، اذا حكمنا علي المسألة حسب مبدأ الربح والخسارة ـ يتوجب سحب فكرة مضايقة سكان غزة بقطع الكهرباء والوقود عنهم، آخذين بعين الاعتبار الثمن الذي يتوجب دفعه اذا قامت بتطبيق ذلك. الأمور التي قالها اولمرت لمحمود عباس تشير الي انه هو ايضا يدرك ذلك: في ختام لقائهما في القدس أُفيد بأن اولمرت قد وعد ضيفه بأن لا تتسبب اسرائيل في أزمة انسانية في القطاع. اذا كان الوضع علي هذا النحو، فما هي الجدوي من الاعلان عن التوجه لفرض عقوبات قوية وشديدة علي سكان القطاع؟ إما انهم ينوون مضايقتهم لدرجة لا تحتمل ـ وعندها لن يكون لوعد اولمرت لعباس أي معني؛ وإما انهم ينوون إزعاجهم بصورة يمكن احتمالها وعندها لن تكون هناك جدوي من المضايقة.
لهذا القرار بُعد اخلاقي ايضا: عندما تغتال اسرائيل المخربين وتلحق الأذي بالناس الأبرياء خلال ذلك، تدعي في معرض الدفاع عن نفسها أنها لم تقصد ذلك، وأن اساليب عمل التنظيمات الارهابية هي التي تُجبرها علي التصرف علي هذا النحو. في اختبار الاخلاق هناك شك اذا كان هذا الادعاء راسخا، ذلك لانه سيكون هناك من يقولون بأن علي اسرائيل أن تمتنع عن عمليتها تلك اذا كانت تعلم مسبقا انها ستتسبب في سقوط الضحايا عبثا. هذا ناهيك عن أن الدولة تسقط بأعين مفتوحة في مصيدة اخلاقية وقانونية عندما تُقدم علي استخدام وسيلة عقابية ترمي عن قصد وادراك الي الحاق الأذي بعشرات آلاف الناس الأبرياء من دون ذنب اقترفوه.
فما الذي يمكن فعله ضد صواريخ القسام اذا؟ بدلا من تجربة تجريف الارض وتدمير المناطق المفتوحة والحصار الاقتصادي وقطع التيار الكهربائي والاجتياحات المحدودة والعمليات البرية وعمليات القتل المستهدِف ـ لماذا لا يتم التوصل مع الفلسطينيين الي تسوية شاملة يكون في أساسها استعداد اسرائيلي حقيقي للتنازل عن مناطق؟.

مصادر
هآرتس (الدولة العبرية)