مئات الآلاف من الأشخاص، جنوداً ومدنيين قتلوا في الحرب العالمية الأولى بغاز الكلور الذي استخدمته الدول المتحاربة في سعيها لحسم المعركة بأسرع وقت. ومع ذلك، فأنه بدون هذا الغاز القاتل ما كان للإنسان أن يعيش، فقد قدر الله لهذا الغاز أن يتحد مع عنصر الصوديوم، وهو عنصر شبه صلب ليكون الإثنان ملح الطعام ( كلوريد الصوديوم )، الذي لا يستغني عنه الناس، كما أنه يدخل في تركيب الدم. ويتكون ملح الطعام عندما تتخلى ذرة الصوديوم عن إلكترون من مدارها الخارجي، لتلقفه ذرة الكلور، فتتحد الذرتان، لتكونا هذا الملح.

أي أن سنة الله قد قضت أن الإختلاف الكبير بين هذين العنصرين لم يحل بين تعايشهما وتعاونهما بما ينفع الكائن الحلي، وأي منفعة. وبهذه الطريقة تتكون جميع المركبات التي لا غنى للكائن الحي عنها، فلو ظلت العناصر متفرقة لما كانت هناك حياة. فالذهب إذا فقدت ذراته إلكتروناً واحداً يتحول الى زئبق، والعكس صحيح.

أي أن هذا الكون في تركيبه قائم على التعدد والإختلاف الذي أصبح بدوره سبيلاً للتعاون والتوافق.

وما ينطبق على مجتمعات هذه العناصر الصماء، يتوجب أن ينطبق على المجتمعات الإنسانية.فالمجتمعات الي تسمح بالإختلاف والتعدد ولا تنزع الشرعية عن حق الناس في تبني مواقف مختلفة هي المجتمعات التي ضمنت التفوق والإزدهار، والعكس صحيح.

وللأسف الشديد أن الثقافة السائدة في مجتمعاتنا العربية وفي مجتمعنا الفلسطيني على وجه الخصوص تنزع الشرعية عن الإختلاف، الأمر الذي جعل الخلاف السياسي سبباً للتنازع والقتال. أن ما يمر به مجتمعنا الفلسطيني من حالة استقطاب وصراع خطيرة، ليس فقط لوجود برنامجين سياسيين مختلفين وأطراف خارجية معنية بتغذية هذا الصراع، بل – بشكل أساسي – لأننا كفلسطينيين، كما هو الحال ابناء امتنا، لم نترب على التعايش مع الرأي الآخر، فمن لا يتبنى رأيي، فهو بالضرورة عدوي الذي يتوجب علي أن أفعل كل ما في وسعي من أجل أن اقصيه، وأقيم مملكتي على أنقاضه. فعلى السبيل المثال هناك أحزاب في كثير من المجتمعات بينها إختلافات على نفس الحدة، ولا تقل جدية عن الخلاف بين حركتي " فتح " و" حماس "، ومع ذلك، فأنه لم ترق قطرة دم واحدة بينها بسبب هذا الخلاف، لأنهم هناك يؤمنون بحق خصومهم في التعبير عن آرائهم والتشبث بها. أما الحسم في قضايا الخلاف فتكون وفق مرجعيات يتم التوافق عليها، والعالم الحر لم يتوصل حتى الآن الى آلية أفضل من الإنتخابات لتحديد اي البرامج السياسية التي يتوجب أن تعطى الفرصة في التطبيق، فالطرف الذي يحظى برنامجه بقبول الشعب، يمنح هذه الفرصة، والآخر يقبل ويسلم بإرادة الشعب، لكن في نفس الوقت يواصل وفق أصول اللعبة الديموقراطية نضاله من أجل برنامجه وأفكاره.

من حق طرف أن يتشبث ببرنامج ينادي بتحرير فلسطين من النهر الى البحر ومن رفح للناقورة، ومن حق الطرف الآخر أن يكتف برنامجه بدولة فلسطينية على ارض العام 67، والبرنامج الذي يتوجب على الشعب تحمل تبعاته هو البرنامج الذي يوافق عليه الناس.

فضمان الشرعية للإختلاف مطلوب أيضا داخل الفصائل والتنظيمات والأحزاب. والتنظيمات والأحزاب الحية هي تلك التي تؤمن بحق افرادها وأتباعها في التعبير عن ارائهم، وأن يكون لرأي نخبها دور في تحديد وجه هذه الأحزاب.

وعلى كل الأحوال يتوجب أن يسعنا هذا الوطن رغم خلافاتنا وتبايننا، على الأقل كما يسع ملح الطعام الكلور والصوديوم!!!!!!!