يعتبر التطابق بين الواقع والوعي، أي وعي الواقع بعيداً عن ذاتية التضخيم والتقليل، شرطاً لازماً للإدراك النسبي لحقائق الواقع، الأمر الذي يعطي قدرة التعامل الصحيح مع هذه الحقائق، ويتيح فرصَ المعالجة الصائبة لها، وصولاً الى صياغة الاستراتيجيات والتكتيكات السليمة القادرة على التأثير الواعي فيها. وبالمقابل، يشكل التخلف الحاد لحركة الوعي عن مواكبة حركة الواقع انفصالاً للوعي عن حقائق الواقع، الذي إن وقع في السياسة تكون التعاسة، التي أعتقد أنها تشكل السمة الغالبة للعديد من السياسات العربية، ومنها الفلسطينية، خاصة فيما يتعلق بإدارة الصراع مع الكيان الصهيوني، وطريقة التعامل مع القطب الأمريكي المنفرد في السيطرة على السياسة الدولية ومؤسساتها، والداعم بصورة شبه مطلقة للرؤية الصهيونية ومواقفها.

قسوة الاستخلاص السابق تزكيها مغالطة عقدين من رهان السياسة الرسمية العربية، ومنها الفلسطينية، منذ مؤتمر مدريد (1991) فاتفاق أوسلو (1993) وما تلاهما من اتفاقات، على امكانية حصول ضغط أمريكي على الكيان الصهيوني يجبره على عقد تسوية سياسية للصراع، بل وتصديق دعاية قادة هذا الكيان حول الرغبة في التسوية السياسية والاستعداد لدفع استحقاقاتها، وذلك على الرغم من تكذيب معطيات الواقع والتاريخ، (الذي لا يجب تصديق غيره)، للدعاية الصهيونية الأمريكية وتعلق السياسة العربية بخيوط مزاعمها الواهية، التي ينسفها من جديد، (رغم صخب "لقاء أنابولس" الدولي شكلاً والأمريكي مضموناً)، ما يدور على أرض فلسطين من جرائم حرب وتهويد للقدس وابتلاع لمنطقة الأغوار واستيطان في الضفة وتطهير عرقي وتقطيع للأوصال وتدمير وحصار وتجويع صهيونية، وهي جرائم حرب تغطيها الإدارة الأمريكية وتدعمها، ولا تشكل المجازر التي ترتكب بحق الفلسطينيين في غزة هذه الأيام سوى غيض من فيضِ تاريخها الطويل، منذ "النكبة" عام ،1948 فضلاً عن ثلاثة عقود سبقتها، ومهد لها بلفور عام 1917 بوعدِ إقامة "وطن قومي لليهود في فلسطين"، كحلقة مركزية في اتفاقية سايكس بيكو الاستعمارية التجزيئية لوحدة العرب وأرضهم.

على ما تقدم، هل يبقى غير تأكيد أن الرهان العربي والفلسطيني على حيادية أمريكا، هو كرهان طاحن الهواء، وأن تصديق كذبة استعداد الصهاينة للتسوية السياسية هو كتصديق حارث البحر؟ وبالتالي ألا يكشف استمرار هذا الرهان وذاك التصديق عما يختزنه الوعي السياسي الرسمي العربي من تخلف حاد عن وعي حقائق المواقف الصهيونية الأمريكية الرافضة للقبول بالحد الأدنى من الحقوق العربية الفلسطينية؟

تلك حقيقة زكتها مسيرة عقدين من المفاوضات العبثية العقيمة مع قادة الكيان الصهيوني تحت الرعاية الأمريكية، غير أن تخلف الوعي السياسي الرسمي العربي عن إدراك هذه الحقيقة المرة، بلغ درجة الإعاقة، إذ ما زال سائد هذا الوعي يقول: إن للولايات المتحدة مصلحة في حل الصراع العربي الصهيوني، وجوهره القضية الفلسطينية، وذلك بهدف الحفاظ على مصالحها في المنطقة، خاصة بعد تورطها في مستنقع العراق وأفغانستان، وبعد التهديد الإيراني لنفوذها. وبالتالي، فإنه لا ضرر من متابعة "وعد بوش" بإقامة دولة فلسطينية، خاصة أن الإدارة الأمريكية تدرك أن العرب والفلسطينيين لا يمكن لهم القبول بالشروط الصهيونية للتسوية السياسية.

تكرار هذه المعزوفة أصبح ممجوجاً، ويكشف عما بلغه الوعي السياسي لأصحابها من انفصال عن حقيقة أن "وعد بوش" لا يعدو مواصلة لسياسة تقطيع الوقت وإدارة أزمات الصراع بهدف منع تفجرها في محيطها، وذلك من على قاعدة استراتيجية ذاك الذي تنطع (وفق حكاية شعبية) لتعليم حمار الأمير القراءة والكتابة. إذ يحكى أن أميراً، أراد أن يعلم حماره القراءة والكتابة. وكان كلما كلف أحد المفكرين بالمهمة، ورفض لتعذر القيام بها، قتله. وأخيرا جاء أحد الحشاشين، وتبرع بالقيام بالمهمة، ولكنه اشترط تكاليف عالية، ومدة عشر سنوات لإنجازها. فوافق الأمير. وعندما استغربت زوجة الحشاش تنطعَ زوجها للقيام بمهمة مستحيلة، أجابها بكلام متقطع قائلا: سنستفيد من المكافأة لعشر سنوات، وبعدها قد يموت الأمير، أو يموت الحمار، أو أموت أنا.

ولو كان الحشاش أحد واضعي السياسة الأمريكية تجاه قضية الصراع العربي الصهيوني لقال: دعنا نعيد كرة سياسة تقطيع الوقت وإدارة أزمة الصراع، فإن نجحنا في فرض شروط حليفنا الصهيوني، يكون خيراً، وإن لم ننجح، نكون قد جمدنا الصراع، وجوهره القضية الفلسطينية لمدى زمني طويل، يربح خلاله الصهاينة خلق المزيد من الحقائق على الأرض، لتكون أوراق قوة أخرى بيدهم، يساومون بها على ما هو أكبر منها في الجولات اللاحقة من المفاوضات، خاصة أن الطرف العربي، ومنه الفلسطيني، اتخذ من المفاوضات خياراً وحيداً، رغم ثبوت عقمه مثنى وثلاث ورباع، بما يجعل مواصلة الرهان عليه بمثابة احلال للوعي الذاتي محل الواقع، وجعل الواقع خبراً للوعي. فيحل منطق الاستنباط، الذي يبحث عن أسانيد واقعية تثبت فكرة في الذهن رغم ثبوت بطلانها في الواقع، بدل منطق الاستقراء الذي يستخلص الفكرة من الواقع، الذي أثبت أن الصهاينة بكل أطيافهم الحزبية أبعد ما يكون عن الاستعداد للتسوية السياسية للصراع، وأن الإدارة الأمريكية، بصرف النظر عن لونها الحزبي أبعد ما يكون عن امكانية الضغط على الصلف الصهيوني.

في السياق، تأتي جرائم الحرب الصهيونية الأخيرة في غزة لتؤكد من جديد زيف ادعاء قادة الكيان حول الرغبة في التسوية السياسية، ولتثبت مرة أخرى عقم الرهان على حيادية أمريكا. وقبل زمن طويل قال أحد الفقهاء "اللهم أرِنا الممكن ممكناً، وارزقنا القدرة على تنفيذه، وأرِنا المستحيل مستحيلاً وارزقنا الصبر على تحمله".

مصادر
الخليج (الإمارات العربية المتحدة)