تجاوزت «أحداث الأحد» في السابع والعشرين من كانون الثاني ,2008 حدود الاحتجاج العفوي والموضعي لثلة من الشبّان الناقمين، كما كان يحصل في مرات سابقة، ليرتسم مشهد سياسي جديد، لعل أخطر ما حمله في طيّاته هو بعده الأمني، المتمثل في إطلاق النار المباشر على رؤوس الناس وصدورهم وسقوط عدد كبير من الشهداء وعشرات الجرحى...
ولو لم تنجح قيادتا «حزب الله» و«أمل»، بالتنسيق المباشر مع الجيش اللبناني، في لملمة الشارع، خاصة بعد أن ثبت بـ«الملموس» دخول «طابور ثالث» على خط أحداث منطقة مار مخايل ـ الشياح، فإن الأمور كانت قابلة لأن تسلك مسالك أكثر دراماتيكية، ربطاً بمناخ الأزمة والاتهامات السياسية المتصاعدة داخلياً من جهة وباتساع رقعة الاحتجاج التي بلغت بعض مناطق بيروت والجنوب والبقاع من جهة ثانية.
ولم يعف الحديث عن وجود «طابور ثالث» أو «خامس»، المؤسسة العسكرية من مسؤولية التحقيق في ما حصل، تقنياً ومعنوياً، ولذلك، باشرت القيادة العسكرية، تحقيقاً عسكرياً شاملاً حول ملابسات ما جرى وتحديداً قضية إطلاق النار وسقوط هذا العدد الكبير من الضحايا الأبرياء وبينهم العنصر في الهيئة الصحية الاسلامية الشهيد المسعف مصطفى علي أمهز بالإضافة الى شابين أحدهما ينتمي الى «امل» وكان يتولى التنسيق مع الجيش على الأرض، بالإضافة الى محمود عبد الأمير منصور من لجان انضباط «حزب الله» وقد سقط بينما كان يقوم بمهمة تنسيق مماثلة في مار مخايل.
وتكثّفت الاتصالات، مساء أمس، بين الرئيس نبيه بري وقيادة «حزب الله» من جهة وقائد الجيش اللبناني العماد ميشال سليمان ومدير المخابرات العميد جورج خوري من جهة ثانية، كما عقدت اجتماعات أمنية تنسيقية مكثفة، وتزامن ذلك مع جولات ميدانية قام بها قياديون امنيون على الأرض من أجل ضبط الوضع وكذلك من أجل اتخاذ إجراءات تؤدي الى عدم جعل مناسبة تشييع الشهداء التسعة اليوم، مناسبة لاندلاع احتجاجات إضافية، على أن تعلن قيادة الجيش عن نتائج التحقيقات في أسرع وقت ممكن.
وفي التفاصيل، أنه قرابة الرابعة من بعد ظهر أمس، وبينما كان عشرات الشبان يحتجون على قطع التيار الكهربائي والأوضاع المعيشية، بإحراق الاطارات المطاطية ومن ثم محاولة قطع الطريق في حي معوض وتقاطع مار مخايل غاليري سمعان في الضاحية الجنوبية لبيروت، فوجئوا بعد وقت قصير جداً، بإطلاق نار عليهم أدى «الى مقتل مواطنين اثنين أحدهما كان يعمل في إطار تهدئة الوضع (أحمد حسين حمزة من «امل») إضافة الى إصابة آخرين بجروح، كما جاء في بيان الجيش اللبناني.
وفور وقوع الضحيتين، امتدت أعمال الاحتجاج وتوسعت باتجاه طريق صيدا القديمة وطريقي المطار القديمة والجديدة وشارع مار الياس في بيروت وبعض الطرق الرئيسية في الجنوب والبقاع، فيما أكدت مصادر عسكرية لبنانية أنه في موازاة التحقيق الذي تقوم به قيادة الجيش، تم تنفيذ أعمال دهم في منطقة عين الرمانة المقابلة لمنطقة الشياح وتم توقيف أشخاص على خلفية معلومات وصور تم التقاطها حول إطلاق نيران جرى من بعض الأبنية العالية باتجاه مناطق الاحتجاج. كما اعتقل الجيش أكثر من
خمسين شخصاً من المشاركين في الاحتجاجات.
وسجل قرابة التاسعة ليلاً إطلاق قنبلة يدوية في شارع المطاحن في عين الرمانة، ما أدى الى وقوع 7 جرحى، فيما نفى رئيس بلدية عين الرمانة حصول تعديات على الأملاك والناس في المنطقة.
وقالت مصادر سياسية معنية أن التحقيق يجب أن يتطرق الى مَن أمر الجيش بإطلاق النار في بعض النقاط ومن يقف خلف هذه التعليمات، وخاصة أن ثمة عملية تبديل عسكرية حصلت في الآونة الأخيرة. وأشارت المصادر الى أن بعض الصور التي تم التقاطها، سواء تم بثها أو لم تبث، انما تظهر تصرفات غير لائقة قام بها عدد من ضباط وعناصر الجيش خاصة في منطقة مار مخايل.
وبينما غاب «حزب الله» عن الاعلام أكثر من ثلاث ساعات ونصف الساعة، وتعمدت محطته التلفزيونية (المنار»)، عدم نقل الأحداث مباشرة على الهواء، فإن عضو كتلة الوفاء للمقاومة النائب حسن فضل الله تولى وحده ليلاً تظهير الموقف السياسي للحزب، داعياً الى التهدئة ومركزاً على التحقيق في ما جرى.
وبعيد الواحدة فجراً، أصدر «حزب الله» بياناً سياسياً توقف فيه عند «هول الجريمة»، معتبراً ما حدث «جريمة كبرى» ارتكبت على وقع تهديدات السلطة ووعيدها للمطالبين بلقمة العيش «وهي لم تتوان عن اتهام الناس بالمسؤولية عن فقرهم وعوزهم وانقطاع الكهرباء عنهم، والتحريض عليهم لتوريط الجيش في مواجهة مع الفئات الشعبية الكادحة ليتسنى لها تحقيق مآرب سياسية وأمنية، وعمدت بعد ارتكاب الجريمة إلى بث أحقادها والرقص على الدماء إمعاناً في الاستهانة بالوطن والمواطنين».
واذ حمّل «حزب الله» سلطة الأمر الواقع الحاكمة وأركانها المسؤولية عن كل قطرة دم سُفكت، دعا قيادة الجيش «للإعلان الواضح والصريح للبنانيين ولأهالي الشهداء المظلومين والجرحى عن الجهة المجرمة التي قتلت مواطنين أبرياء، فهل الذين سقطوا شهداء وجرحى سقطوا برصاص الجيش، وبالتالي مَن أصدر الأمر للجنود بإطلاق النار ومَن يتحمل مسؤولية ارتكاب هذه الجريمة المروعة ولحساب مَن؟ أم أن هناك جهة أخرى ومَن هي؟
وتعهد «حزب الله» متابعة هذا الأمر «حتى كشف هوية المجرمين القتلة والمحرضين والمسؤولين والجــهات التي تقف وراءهم لأن هذه الدماء التي سُفكت لها أهلها وحرماتـها ولا يمكن السكوت عن هذا التعاطي الإجرامي مع الناس».
وخصص الرئيس بري كل جهوده، بعد ظهر أمس، لمتابعة جهود تطويق الموقف، وأطل مساعده السياسي النائب علي حسن خليل، عبر الاعلام المرئي مناشدا المواطنين الهدوء، وأكد أن حركة أمل وحزب الله لم يكونا جزءاً من تحرك الناس الاحتجاجي بل بالعكس كانا مع الجيش في موقع الضبط واللملمة، واتهم قوى الأكثرية بالدخول على خط التوتير السياسي.
ودعا رئيس الحكومة فؤاد السنيورة الى اعتبار اليوم، يوم حداد وطني وإقفال للمدارس والجامعات الخاصة والرسمية «حداداً على أرواح الشهداء الضحايا الذين سقطوا»، داعياً الى جعله أيضاً «يوم وقفة مع الذات والضمير للتفكر في كيفية الخروج من هذا المأزق الوطني والذي لن يكون الا بتلاحمنا مع بعضنا البعض وبحوارنا ووفاقنا ووفاء لدماء الشهداء وحماية لوطننا لبنان».
وحمّلت لجنة المتابعة في قوى الرابع عشر من آذار المسؤولية الكاملة عن دماء الضحايا الى قوى 8 آذار «التي تعمل بتوجيهات المحور السوري الايراني». وجددت دعمها الكامل للجيش، ودعت «من يريد أن يسمع لدى الفريق الآخر الى التوقف عن الرقص على حافة الهاوية وعدم الإفراط في الرهان على صبر اللبنانيين وسعة صدورهم لأن السلم الأهلي خط أحمر، والجيش اللبناني خط أحمر ايضاً وتصويب الإتهامات في اتجاه عين الرمانة لزرع الفتنة هو ايضاً وأيضاً خط أحمر».
وقال قائد «القوات اللبنانية» سمير جعجع ان المعلومات القليلة المتوافرة بحوزته تؤكد ارتباط بعض محركي التظاهرات بأجهزة مخابرات غير لبنانية. وأعرب عن عدم قلقه من ان يفلت الوضع في اتجاه من الاتجاهات، لكنه قال إن الجيش لا يستطيع البقاء مكتوف الأيدي «وإلا فإن الوضع سيتدهور ويصل الى ما لا يحمد عقباه». وربط ما جرى «بتحذير الرئيس بري من الشر المستطير وهذا ما نشاهده في الوقت الحاضر».
أحداث بيروت تصرع «لقاء القاهرة»!
في القاهرة، انعقد الاجتماع الوزاري العربي على وقع تطورات بيروت الأمنية المتسارعة، وسبقته مشاورات ثنائية وعلى مستوى أعضاء «مبادرة القطاّمية» الستة.
ولوحظ أن الاجتماع الموسع تأجل لساعات بهدف إتاحة المجال أمام مزيد من المشاورات، حيث عقد اجتماع سداسي ضمّ وزراء الخارجية المصري أحمد أبو الغيط والسعودي سعود الفيصل والسوري وليد المعلم والعماني يوسف بن علوي، إضافة إلى رئيس الوزراء القطري حمد بن جاسم بن جبر آل ثاني والأمين العام للجامعة العربية عمرو موسى لمناقشة التفسير الخاص بالبند الثاني في خطة العمل العربية لتسوية الأزمة والمتعلق بتوزيع الحصص الوزارية بين الأكثرية والمعارضة.
وذكرت مصادر مطلعة في القاهرة لـ «السفير»، ان المعلم التقى موسى قبل الاجتماع الموسع، مشيرة الى ان اللقاء السداسي «لم يكن دافئا ولا متوترا». وأضافت المصادر ان الاجتماع الموسع شهد انقساما بين المجتمعين، حيث بدت ليبيا والجزائر وسلطنة عمان وقطر وسوريا أقرب الى المعارضة، فيما بدت السعودية والاردن ومصر والمغرب والامين العام للجامعة اقرب الى الموالاة. وقالت المصادر ان سوريا رأت خلال الاجتماع انه «لا يجوز للعرب والجامعة الدخول في لعبة الارقام والمحاصصة وأن يترك الأمر للبنانيين أنفسهم». واعتبرت المصادر ان البيان الذي صدر عقب الاجتماع «من دون تقدم... وقد اعتمد الغموض البناء مجددا من اجل الإبقاء على التوافق العربي».
وفي الآتي نص البيان:
(قرر المجلس عدة نقاط بعد بحثه لمختلف المستجدات والأبعاد المحيطة بالأزمة اللبنانية والعقبات التي ما زالت تعترض تنفيذ المبادرة العربية، وخاصة التباعد الكبير بين موقفي الاكثرية والمعارضة في ما يتعلق بنسبة تمثيلها في حكومة الوحدة الوطنية. وهي كالآتي:
1ـ تأكيد الإجماع العربي على الالتزام بالبنود الواردة في المبادرة العربية نصاً وروحاً، والعزم على مواصلة الجهود لتنفيذ هذه المبادرة.
2ـ الإشادة بالجهود التى بذلها الامين العام وحث جميع الاطراف اللبنانية على التجاوب مع مساعيه والاستمرار في اللقاءات التي بدأت بين اقطاب الاغلبية والمعارضة بدعوة من الامين العام لتنفيذ بنود هذه المبادرة المتكاملة ودعوتها الى:
أ) إنجاز انتخاب الرئيس التوافقي (العماد ميشال سليمان) على اسس تشكيل حكومة الوحدة الوطنية.
ب) إجراء المشاورات للاتفاق على اسس تشكيل حكومة الوحدة الوطنية.
ج) بدء العمل على صياغة قانون جديد للانتخابات النيابية فور تشكيل الحكومة.
3 ـ قيام الامين العام بمعالجة نسب التمثيل في الحكومة مع الطرفين المعنيين في اجتماع الاطراف اللبنانية المشار اليها، ودعم جهود الامين العام في مساعدة تلك الاطراف على الوصول الى حل توافقي في ما بينها.
4 ـ في ضوء الخلافات التي يشهدها لبنان يوصي المجلس كافة القوى السياسية اللبنانية الانطلاق من العناصر الرئيسية التى جاءت فى البيان الوزاري للحكومة الحالية بهدف الاتفاق حول التوجهات العامة لعمل الحكومة المقبلة.
5 ـ بحث إمكانية توفير الضمانات والتطمينات المتبادلة بين الفرقاء اللبنانيين للمساهمة فى بناء الثقة، بما في ذلك التفاهم على استمرار حكومة الوحدة الوطنية.
6 ـ التحذير من مغبة تصعيد مظاهر التوتر في الشارع وتصاعد حدة الحملات الإعلامية ودعوة كافة الإطراف الى الالتزام بضبط النفس درءا للفتنة ووقف حدة التوترات بما يسمح بمواصلة المساعي لتنفيذ المبادرة العربية في مناخ ايجابي.
7 ـ إبقاء جلسات المجلس مفتوحه لمتابعة المستجدات».
وصدر عن الاجتماع الوزاري بيان ثان حول لبنان اعرب فيه الوزراء العرب عن «اسفهم لاستمرار مسلسل الاغتيالات»، وأدانوا جريمة اغتيال الرائد الشهيد وسام عيد. كما دعوا اللبنانيين الى «التكاتف والوحدة» بعد احداث امس.
وعلى هامش الاجتماع، قال رئيس الوزراء القطري حمد بن جاسم بن جبر آل ثاني ان «هناك صعوبة في ما يتعلق بحصة كل طـــرف من الأطراف اللبنانية فى الحكومة، وهي مشكلة في عدد الوزارات وليس نوعها». وفيما أعرب عن أسفه للأحـــداث التى وقعت امـــس، أكد ان «العــماد ميشال سليمان هو المرشـــح التوافقي»، مشـــيراً الى ان «الفرنسيين نفوا الشائعات بشأن طرح مرشــح آخــر»، ونافياً ان تكون بلاده تقود وساطة بين سوريا والســعودية.
وفي مؤتمر صحافي عقده بعــد الاجتماع، قال موسى ان «هناك نقاطا أثيرت في الاجتــماع الرباعي في عــين التينة عن ضمانات وتطمينات يضاف إليها اليوم توصيــتنا بالانطلاق من العناصر الرئيسية الــتي سبق التوافق عليها». وحذر من انه «إذا استمر تهييــج الشارع فهذا يقضي على محاولة أي تفاهم وستحصل الفوضى التي ستســـتدعي تدخلات مختلفة ومواقف سياسية مختلفة». وجدد قوله ان المـــبادرة العربية تعني «ألا تأخذ المعارضة الثلث المعــطل ولا الموالاة الاكثرية». كمـــا أكد ان القمة العربية ستعقد في موعدها في دمشق وان الدعـــوات ستوزع قريباً.

مصادر
السفير (لبنان)