لم يسجّل التاريخ أبداً أن قوماً تجرّءوا عليه مثلما فعل و يفعل الإسرائيليون، ولم تشهد الجغرافيا عبثاً بها مثلما عبثوا، كما لم تلق الحقيقة ما لقيته وتلقاه عادةً على أيديهم. هم دائماً سادة الإنتقائيّة والتلفيق فيما يتعلّق بتاريخهم أو ما شاءوه هم لانفسهم من تاريخ، ومحترفون في القدرة على تشويه تواريخ الآخرين ومسخها. أما قدرتهم الفذّة على العبث بالجغرافيا تشويهاً وتزويراً فلا يعدله إلا قدرتهم على فرض أمرهم الواقع كاستعمار إحلالي، مثلما هو حالهم في قلب بلادنا العربية بعيد اغتصابهم لفلسطين وإقامة كيانهم الغاصب بالحديد والنار على أنقاضها.

إن واحداً من الأبعاد الثلاثة التي يقوم عليها ما أقاموه، أي إلى جانب البعدين الأمني والدور والوظيفة في سياق المشروع الغربي في المنطقة، هو البعد الديني أو الأيديولوجي المستند إلى ما شاءوا من ما اختاروه من الأساطير والخرافات أو كل ما ينضح بضروب التلفيق، بل السطو المعروف على أساطير المنطقة برمتها و انتحالها ونسبتها لهم...

المظالم في التاريخ البعيد لم تقع إلا على من يدعون أنهم أسلافهم، و المحارق، أو الإبادات الجماعية التي يمارسونها راهناً بحق العرب الفلسطينيين لم ترتكب إلا بحقهم في التاريخ المعاصر أو القريب. و"الغوييم" أو الأغيار، أو الآخر، يظل بالنسبة لهم مشروع معاد للسامية، ويكون كذلك فعلاً إن ما تساءل، وإن لم يشكّك، في هذا الذي ارتكب أو يقال أنه ارتكب بحقهم... وهكذا، والأدهى أن على العالم أن يتجاهل أو ينسى كليّاً، بل أن يخلوا حتى عقله الباطن من كل ما له علاقة بالنكبة أو المأساة المستمرّة التي يديرونها على مدار الساعة على امتداد ما يقارب القرن بحق الشهب العربي الفلسطيني، أرضاً ووجوداً مادياً وبشرياً وسياسياً ومعنوياً، والذي هو أيضاً يعد فريداً في التاريخ ونشازاً في الجغرافيا واغتيالاً دائماً للحقيقة... وصولاً إلى ما يقارب نسبة ما فعلوه بالفلسطينيين إلى الفلسطينيين!

نكتفي بهذا، ولن نخوض في تفاصيله المعروفة، ونقصر حديثنا أو ما ندلل به على ما ذهبنا إليه، على مثلين راهنين طازجين هما:

ما فعلوه بالرئيس الأمريكي السابق جيمي كارتر وما قالوه على لسان وزيرة خارجيتهم تسيبي ليفني في "ندوة الدوحة" أو ما يطلق عليه المؤتمر الدولي للديموقراطية، وكلا الحديثين لم يمر عليه إلا بضعة أيام فحسب.

كارتر، الرجل الذي حظي بجائزة نوبل السلاميّة لكونه راعي اتفاقيات كامب ديفيد، هذه التي تسبّبت في المذبحة المستمرة التي لحقت بالإرادة السياسية العربية، والتي تعيش الأمة العربية تداعياتها وستعيشها ربما لعقود قادمة، والتي من شأنها أن أذنت ببدء مسيرة تصفية القضية الفلسطينية، و تثبيت إسرائيل في المنطقة، أو الرجل الذي فعل ما لم يفعله سواه لإسرائيل، حدث أن ارتكب خطأً فادحاً لا يمكن غفرانه من قبلهم، وهو وصف ما يجري في فلسطين المحتلة على أيديهم بنوع من "الأبارتهيد"، لذا عُدّ مارقاً يستحق منهم نكران جميله، بل برغم ما فعله لصالحهم، ورغم أنه جاء هذه الأيام كمجرد "همزة وصل"، وفق وصفه، بين الإسرائيليين وأعدائهم، ولكي يحاول الإفراج عن أسيرهم لدى حماس جلعاد شاليط، يستحق منهم أن يعنّفه شمعون بيريز مخاطباً أياه:

"إنك ألحقت ضرراً شديداً بتصريحاتك ولقاءاتك في السنوات الأخيرة"... بيريز الوحيد من المسؤولين الإسرائيليين الهامّين الذي استقبل كارتر، وكان هذا الاستقبال، ليس ببرود فحسب وإنما بما هو أشبه بالتوبيخ ، ثم أخذوه إلى مستعمرة سديروت القريبة من غزّة ليشهد مدى "عدوانية" الفلسطينيين، أما ما خلا ذلك فكان كما قالت صحيفة "يدعوت أحرنوت":

" الرئيس الذي تحت رعايته و قّعت اتفاقية كامب ديفيد مع المصريين لم يستقبل هذه المرة في القدس بالترحاب. رئيس الوزراء، وزير الدفاع، ووزيرة الخارجية، لم يجدوا الوقت للقائه"... وأخيراً منعوة من زيارة غزة وودّعوه بمثل ما استقبلوه به!

أما تسيبي ليفني فكان منها ما كان في الدوحة... كانت وهي في طريقها إلى حيث تدلي بدلوها في شؤون وشجون الديموقراطية، قد أخبرت ما حفّ بها ورافقها من الصحفيين الإسرائيليين بنيّتها في كتابة التاريخ الذي تريد وقلب حقائق الجغرافيا وفق مشيئتها، بل وارساء أسس الذاكرة العربية وحتى تصميمها مستقبلاً وفق المنظور الإسرائيلي إيّاه، وكل ما يعني الرغبة الإسرائيلية الأمريكية في قلب صفحة الصراع العربي الصهيوني نهائياً... لدرجة مطالبتها بما دعته "التخلي عن النظرة التي نفذت صلاحيتها" فيما يتعلق بهذا الصراع!

عند ليفني لا مشكلة ولا قضية فلسطينية، لا وطن اغتصب، ولا شعب شرّد، أو يواجه ما يواجهه من ضروب التغييب والإبادة مختلفة الوجوه... بل أن مجرد حصول مفاوضات من صنف ما يدور بينها وبين قريع "يشهد على استعداد اسرائيل للتوصل إلى سلام"، وإن كان المطلوب أن يتم هذا السلام وفق الرؤية الإسرائيلية بعد تهويد كل فلسطين! والذي يحول، أو التي "تمنع قيام دولة فلسطينية"، وإن كانت وفق رؤية بوش أو شارون قديماً، هي حماس!

وعليه، وكما وعدت الصحفيين الإسرائيليين الذين رافقوها بأن تخبر من يستمع إليها من العرب بأن "إسرائيل لم تعد عدواً... بل العدو هو إيران والجهات المتطرّفة مثل حماس و حزب الله" كان منها أن أوفت بوعدها، فأعلنت لاحقاً في المنتدى أنه "من الواضح بشكل كاف الآن أن اسرائيل لا تشكل خطراً على استقرار المنطقة وسلامها، وبالقدر نفسه من الواضح أن الخطر يأتي من المتطرفين، الذين يرفضون الإعتراف بحقوقنا الديموقراطية".

إذن، المشكلة بالنسبة لها هي مشكلة حقوق ديموقراطية يعتدى عليها وترى أن من واجب إسرائيل الدفاع عنها!

وهي إذ تقول، "نمد يدنا للصداقة مع دول المنطقة"، التي يجب أن تنسى فلسطين وكل ما فعلناه ونفعله بها وبالعرب، فإن عليها المسارعة لمصافحتنا، لأننا، وقد استبدل الصراع بآخر هو الصراع مع المتطرفين، والعدو بآخر هو الإيراني"، فإننا ونحن "المعتدلون في المنطقة جميعاً أعضاء في المعسكر ذاته"، لأن "المواجهة الأكبر القائمة حالياً هي بين المعتدلين والمتطرفين"

باختصار، ليفني، كما أخبرت بنفسها مرافقيها الصحفيين، إنما جاءت سعياً لبلورة جبهة "لمواجهة الخطر الإيراني"، والإفراج عن الأسرى الإسرائيليين لدى حماس وحزب الله... والأهم، ما دام الحديث حول الديموقراطية، تهدف أيضاً إلى "منع مشاركة منظمات وقوى سياسية عربية تصفها إسرائيل بالإرهابية في انتخابات تشريعية" تترتب على مثل هذه الديموقراطية التي تشارك في بحث شؤونها وشجونها!

ليفني، والحق يقال، لم تكتم مطالبتها للعرب، وقد قدمت نفسها حليفاً لهم، بأن من واجبهم أن يضغطوا على المعتدين الفلسطينيين لقبول السلام الإسرائيلي عندما قالت: "الدول العربية لا يمكنها أن تواصل الجلوس على الجدار"... لكنها لم تطالب بعد بحصتها من النفط العربي!

قد نفيض في استقصاء دلالات ما فعلوه بكارتر وما قالوه في الدوحة، لكننا نكتفي بالقول: هكذا عدو، كيف يمكن للجانحين للسلم معه أن يقنعونا ليس بالمصالحة أو بالتسويات أو إقامة السلام معه، وإنما بمجرد إمكانية تخيّل نوع من التعايش مع عدوانيته؟!!