لفظت الهدنة أنفاسها الأخيرة في غزة أم لم تلفظها.. تم التوصل إلى تمديدها لستة أشهر أخرى، أكثر أو أقل.. كل ذلك لا يهم ولا قيمة له، ولن يكون له أية قيمة أمام عيون أمّ غزاوية تحتضن أطفالها الثلاثة خوفاً وبرداً، وأمام جوع وحصار طويل ينهش لحم أطفال غزة ويستعجل موت المرضى والمعافين على حد سواء في خطوات استباقية تكررت مرات ومرات، واستطاعت أن تلوي ذراع القدر وتكون هي الأسرع في الانقضاض على الغزاويين واختطاف حياتهم!.

بات واضحاً أن مليون ونصف مليون إنسان هناك هم أشبه ما يكونون برهينة سياسية في أيدي "الاعتدال العربي"، يدفعون ضريبة إبقاء غزة كقطعة من الخشب، تعوم فوق سطح السياسة والمشاريع السياسية وتجاذباتها وما ينتج عن ذلك من حالات ترقب لتطورات وتغيرات سياسية إقليمية ودولية يمكن أن تحمل رياحها بوادر حل لمعاناة الناس هناك، ويمكن أن تضع حداً لمزايدات وادعاءات فريق عربي يعزف على وتر الحرص والمسؤولية الكاملة عن سكان غزة و.. القضية، ولكن.. شرط أن ينحني هؤلاء عن بكرة أبيهم أمام مشروع عربي "معتدل" يساوي بين القاتل والقتيل، بين السجان والسجين، ويروج لثقافة "الحوار الأعرج" بين الذئب والحمل وإمكانية تعايشهما جنباً إلى جنب، ثم وفوق كل ذلك، لا يستطيع أن يخفي عبر تصريحاته وإعلامه المقيت أشكالاً واضحة ومتعددة من التهديد وحتى التشفي بسكان غزة وبمصيرهم المأساوي، فقط لأن خيارات قسم كبير منهم لا تنضوي تحت لواء مشروع البترو دولار السياسي والثقافي.

إذاً فـ "المعتدلون" العرب قد عقدوا العزم على أن تبقى غزة برجالها ونسائها وشبابها وأطفالها و.. مقاوميها تحت الضغط والحصار إلى أن يغير الله ما في نفوسهم، أو إلى أن يقض مضجعهم الجوع والبرد والشقاء والبؤس والموت القابع وراء كل الجدران والمتربص في كل الزوايا، فيتغير ما في نفوسهم رغماً عنهم ـ بوصفهم بشراً ـ وإلا فسوف يظل كل واحد منهم مشروع موت مؤجل!.

سكان غزة باتوا يعرفون أنهم يدفعون ثمناً باهظاً وفي اتجاهين: ففي حال عدم وجود هدنة هم يدفعون الثمن أرواحهم وأمنهم وسلامهم وغذاءهم حيث أن الفك الإسرائيلي ينفتح على مصراعيه في اعتداءات متكررة، وفي الإبقاء على الحصار.. وفي حال وجود الهدنة فهم يدفعون ثمن الحصار والتضييق حد الاختناق، أما أرواحم وحياتهم فهي أيضاً تظل ثمناً يدفعونه مقابل خيارهم السياسي وإن بوتيرة أقل.

ما حصل ويحصل في غزة لاشك أنه كشف عن أكثر أشكال تداعي النظام العربي وتفتته وانقساماته التي كشفت بدورها عن محاولات "عربية" هي ابتزاز سياسي مفضوح يضع مستقبل وحياة مليون ونصف مليون فلسطيني في كفة، ومشروع سياسي يسميه البعض بقصد التلطيف "اعتدالاً" والبعض الآخر يسميه "خذلاناً وانهزاماً" في كفة أخرى.. وما على سكان غزة الصامدين سوى الاختيار بين موت جماعي بطيء على مرأى ومسمع العالم، أو انتحار سياسي هو أقسى وأخطر من الموت، سريعاً كان أم بطيئاً!!.