نطق ديتليف ميليس. قال كلاماً من شقين. يؤكد الأول منهما بعض ما هو متواتر من معلومات عن التحقيق اللبناني بخصوص جريمة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري. ويؤكد الثاني منهما بعض ما ورد في تقرير لجنة تقصي الحقائق برئاسة بيتر فيتزجيرالد.
لقد استشهد الرئيس الحريري بعملية انتحارية بواسطة شاحنة “الميتسوبيشي” التي يظهرها الشريط الشهير، ولكن شبهة تحوم حول التصرف اللاحق في مسرح الجريمة. ربما كان الجديد اللافت في المعلومات التي نُشرت أمس هو الانتقال من التعميم إلى التخصيص لجهة تحديد الجهات والأشخاص “المشتبه” بهم في “العبث” بالمسرح.
يوحي ميليس أنه يعرف أكثر وأنه يملك قناعات محددة. غير أنه لا يفصح عنها مكتفياً برمي الشبهة وملمحا إلى أن الاتجاه، بعد “اختتام” التحقيق، هو إلى تشكيل محكمة تتولى المتابعة “لبنانية أو دولية؟”.

وتولّد انطباع أمس بأن التركيز سيتناول القسم الخاص ب“ما بعد” الجريمة وليس القسم الخاص ب“كيف حصلت”بما يوحي أننا سنبقى في دائرة الاستدلال وقد لا نصل إلى “الحقيقة” المرغوبة. إلا أن السياق اللاحق للجريمة أدى إلى فرض “أو محاولة فرض” صلة خاصة بين “كيف” و“مَن” بمعنى أن الفاعل معلوم لمجرد أن التفجير حصل تحت الأرض!
لا ندري لماذا اختار ميليس أسلوباً ملتوياً لقول ما يريد قوله. وهو أسلوب ملتو بمعنيين. الأول هو مخاطبة اللبنانيين المعنيين مباشرة بالموضوع عبر صحيفة فرنسية بدل التوجه إليهم مباشرة كما سبق له أن وعد. والثاني هو تمرير بعض ما يعرفه ولا يريد تبنيه بالكامل عبر التقرير المرفق الذي كتبه مندوب “لو فيغارو” جورج مالبرونو.

لقد سبق للمحقق الدولي أن عقد مؤتمراً صحافياً في بيروت. ثم التزم الصمت. ومن حق اللبنانيين التساؤل عن سر التوقيت الذي اختاره للكشف عن جانب من “الحقيقة” بالتلازم مع الموضوع الحكومي والتأزم في العلاقات السورية اللبنانية والتسويات المعقودة داخلياً بما في ذلك حول حقيبة “العدل”.

يجب الافتراض أن ميليس يعرف ماذا يفعل. ويعرف أنه لا يحقق في جريمة عادية حتى بمقاييس ما سبق له أن تولاه. إن كل كلمة يقولها يمكن لها أن تترك آثاراً دراماتيكية على كامل التركيبة اللبنانية، كما على العلاقات اللبنانية السورية. ومن حق المواطنين مطالبته بأن يعرف أيضاً أنه من غير الجائز له أن يقلد سياسيين ونواباً وإعلاميين في إطلاق الكلام على عواهنه. ولعله من الواجب أن يشرح له أحد ما الانعكاسات الكبيرة لهذه الوجهة في التحقيق أو تلك، وأن يقدم له عرضاً تفصيلياً عن الآثار التفصيلية لتغليب رأي على آخر، هذا في حال كان مسموحاً الإدلاء بآراء.

يعطي الرجل، أحياناً، انطباعاً بأنه يفتعل توازنات سياسية في المعطيات التي يدلي بها. فبعد مؤتمره الصحافي اليتيم الذي أشار فيه، لأول مرة، إلى أرجحية التفجير فوق الأرض، تسرّبت الأنباء على تحقيق أجري مع قائد الحرس الجمهوري. وشهدنا، أمس، التوازن إياه الذي لم تقلّل منه التوضيحات اللاحقة.

إن الجهات “المشتبه بها” مطالبة بتوضيح موقفها أكثر إذا استطاعت إلى ذلك سبيلاً. وعليها أن تدرك أن ما تتجنبه اليوم قد تضطر إليه غداً في محكمة وتحت القسم. وكذلك لقد بات ملحاً أن يوضح بعض أصحاب الفرضيات موقفهم في ضوء ما بات ثابتاً ومؤكداً، ولا بأس إن أقدموا على اعتذار عن الوثائق والخرائط والمعطيات التي قالوا إنها دامغة.

لا أحد يريد لميليس أن يسكت. على العكس. إنه مطالب بأن يكون أكثر شفافية حيال اللبنانيين وأن يكون، طبعاً، أكثر دقة، أو أن يكون بالدقة الممكنة التي تخدم سير التحقيق، وتتقدم نحو الحقيقة، وتدرك، من دون وجل، أن عناوين وطنية كبرى في لبنان مرتبطة بما يصل إليه التحقيق الدولي.

مصادر
السفير (لبنان)