كرّرت وزير الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس في أكثر من مناسبة القول بأنَّ تركيز السياسة الأميركية في الستين سنة الماضية على مسألة الاستقرار في الشرق الأوسط لم يكن كافياً، وبأنَّ الاستقرار لا يتحقق بدون الديمقراطية. هذه المقولة الّتي تعتمدها الآن إدارة بوش في عهدها الثاني تزامنت مع شعار الحرّية الذي أطلقته الإدارة منذ مطلع العام الحالي كعنوان عام للسياسة الأميركية الآن في العالم الإسلامي ومن ضمنه المنطقة العربية.

للوهلة الأولى يبدو وكأن الإدارة الأميركية الحالية قد قرّرت حمل شعلة الحريّة واقتحام كل مواقع الظلم والظلام في العالم الإسلامي من أجل تحقيق مجتمعات العدالة والديمقراطيّة، لكن الواقع يختلف عن ذلك تماماً. فعنوان الحرّية في إدارة بوش الثانية هو محاولة لتبرير ما حدث في العراق بعد ما سقطت مبرّرات الحرب نتيجة عدم وجود أسلحة الدمار الشامل ولعدم وجود علاقة بين النّظام العراقي السّابق والهجمات الإرهابيّة التي حدثت في واشنطن ونيويورك عام 2001.

لكن هذا الشعار لم يقنع الأميركيين بجدوى الحرب في العراق، خاصة في ظل التكاليف البشرية والمالية لها، إذْ أظهرت استطلاعات الرأي العام الأميركي خلال شهر أغسطس أنَّ 38% فقط من الأميركيين يؤيدون الآن سياسة بوش في العراق وأنَّ 51% من الأميركيين لا يوافقون على السياسة الخارجية عموماً، أيضاً، أشار استطلاع قامت به مجلّة « فورين أفّيرز» في مطلع الشهر نفسه إلى أنَّ ثلاثة أميركيين من أربعة يعبّرون عن مخاوفهم من آثار السياسة الأميركية الخارجية ومشاعر الكراهية التي تثيرها في البلدان الإسلامية.

فالخطاب الرّسمي الأميركي بشأن الحرب في العراق يعاني الآن من عدم المصداقيّة لدى معظم الأميركيين، لكن التباين في المجتمع الأميركي هو حول كيفيّة الخروج من هذه الحرب وعلاقة الأمر بالحرب على الإرهاب. لذلك نجد أنَّ إدارة بوش تتعامل مع المسألة العراقيّة في أقنية ثلاث يختلف الخطاب في كلٍّ منها عن الآخر إلى حد التناقض الشاسع.

فالقناة الدوليّة جرى مخاطبتها بإثارة موضوع أسلحة الدمار الشامل، والقناة العراقيّة كان وما زال الخطاب لها يتمحور حول الحرّية وبناء عراق أفضل، أمّا القناة الأميركية، فالخطاب الرَّسمي لها يقوم على نظريّة جعل العراق أداة جذب وكمين للقوى الإرهابيّة المناهضة لأميركا فتتم محاربتها على أرض العراق عوضاً عن تركها تتسلّل للأراضي الأميركية.

وكان الرئيس بوش معبِّراً بشكلٍ واضح عن هذه السياسة حينما قال يوم 22/8/2005 بأنَّ «أحسن وسيلة للدفاع عن أنفسنا حيث نعيش، هي ملاحقة الإرهابيين حيث يعيشون»!وسيبقى هذا الخطاب مؤثّراً في الأميركيين طالما في ذاكرتهم صور وتفاصيل ما حدث يوم 11/9/2001 ، وطالما أنَّ هناك عمليات إرهابيّة تحدث في أوروبا والعالم. فلولا أحداث سبتمبر 2001 لما كان ممكناً أصلاً أنْ تغزو القوات الأميركية أفغانستان والعراق.

لذلك نجد المجتمع الأميركي الآن في معظمه ضد الحرب في العراق لكنَّه ينقسم على كيفيّة الخروج منها، فالعراق حالة مختلفة عن حرب فيتنام وظروفها الدوليّة. فلم يكن الانسحاب من فيتنام يحمل لدى الأميركيين مخاوف تحولها إلى مصدر لجماعات إرهابيّة ضد الولايات المتحدة.

ولا شك أنَّ ما حدث في السنوات الأربع الماضية من أعمال إرهابية ضد مدنيين في أكثر من مكان بالعالم أعطى زخماً كبيراً لمقولة الإدارة الأميركية وسط الأميركيين. أيضاً فإنَّ الخلط الكبير القائم داخل العراق بين أعمال المقاومة ضد الاحتلال، وبين أعمال الإرهاب ضد المدنيين والدبلوماسيين والعراقيين عموماً، يؤكد مخاوف العديد من الأميركيين حول مخاطر الانسحاب الفوري من العراق.

ولا أعلم كيف يمكن أن تجمع الإدارة الأميركية بين منطقها مع العراقيين وبين مضمون خطابها مع الأميركيين. فالحرّية للعراقيين لا يمكن أنْ تتحقّق فقط من خلال الحرّيات العامة للمواطنين بل أساس الحرّية هو حرّية الوطن من كل احتلال وهيمنة خارجيّة، بينما سياسة الإدارة الاميركية في «محاربة الإرهابيين حيث يعيشون» يعني استمراراً طويل الأجل للقوات الأميركية في العراق وافغانستان،

ويعني استمرار العمليات العسكريّة وسقوط القتلى والجرحى من الأميركيين والعراقيين وعدم توفر الأمن والاستقرار لمرحلة مفتوحة زمنيّاً. إنَّ الإدارة الأميركية تتحدّث عن الديمقراطية في الشرق الأوسط كأساس للاستقرار المنشود، فكيف سيمكن الجمع بين العمل للديمقراطيّة في العراق وبين استمرار اللإستقرار لمحاربة الجماعات الإرهابيّة؟!

إنَّ إدارة بوش وضعت نفسها وأميركا والعراق والعالم في مأزق لم يعد من السهل الخروج منه. فلا هي بوارد الانسحاب من العراق أو تسليم أموره لإدارة دولية حقيقية عبر الأمم المتحدة لفترة من الوقت، ولا أيضاً هي قادرة على حسم الأمور السياسية والعسكرية على أرضه بالاتجاه الّذي ترغبه أو تخطط له.

والانعكاسات الداخلية العراقية لهذا المأزق هي في حدّها الأدنى استمرار الانقسامات المهدّدة لوحدة الشعب والوطن، وللاستقرار الأمني والسياسي فيه، وبالتالي صعوبة بناء مؤسسات الدولة بكافة أشكالها. الإدارة الأميركية هي المسؤولة أولاً وآخراً عن الحال الّذي وصلت إليه الأمور في العراق، وهي المسؤولة عن تهديم مؤسسات الدولة العراقية عقب الغزو وليس فقط إسقاط النظام البعثي الصدامي.

لكن الانسحاب العسكري الأميركي الفوري من العراق، بدون توافق مع العراقيين والأمم المتحدة حول جدولته والبدائل الأمنية للقوّة الأميركيّة، سيدفع العراق في ظل انقساماته العميقة الرّاهنة إلى شفير الحرب الأهليّة وإلى تكرار ما حدث في أفغانستان بعد انسحاب الجيش الروسي منها أو ما حدث في الصومال بعد انسحاب القوات الدوليّة.

إنَّ إدارة بوش أرادت العراق ساحة مواجهة مع القوى الإرهابيّة المناهضة لها، وكذلك أرادت جماعات « القاعدة» و«الزرقاوي» أن يكون العراق ساحة حرب مع الأميركيين. وفي ظل هذا التوافق بين الطرفين على كيفية رؤية العراق سيكون صعباً إنْ لم نقل مستحيلاً بناء وضع سياسي ديمقراطي سليم. إنَّ العراق يحصد اليوم مزيجاً من ظلم الماضي الحزبي الديكتاتوري ومن حاضر ظلم الاحتلال، وكلاهما (الماضي والحاضر) مسؤولان عن الانقسامية السائدة في المجتمع وبين أفراد الشعب الواحد.

وكما كان النّظام الدكتاتوري السابق مسؤولاً عن سقوط مئات الآلاف من العراقيين في حروب قام بها مع جواره العربي والإسلامي وسهّلت التدخل العسكري الأجنبي، إضافة إلى عشرات الألوف من شعب العراق في شماله وجنوبه ووسطه الّذين سقطوا ضحايا عمليات القتل الجماعي للنظام، فإنَّ سياسة المحتل الأميركي هي المسؤولة الآن عن هذا الهدر اليومي لدم العراقيين ولو على أيدي قوى مناهضة لأميركا.

محصلة السياسة الأميركية حتّى الآن في العراق أنَّها اسقطت الدكتاتوريّة وفشلت في تحقيق الديمقراطيّة السليمة، وأنهت حروب الدولة البعثيّة العراقية مع دول الجوار لكنّها شرّعت الوطن العراقي لحروب الأهل والداخل. وكما خاب أمل العراقيين بوعود وأحلام أطلقتها إدارة بوش عقب الغزو مباشرة، يعيش الأميركيون خيبات أمل متلاحقة بسياسة إدارتهم تجاه العراق، إذْ لم تؤدِّ عملية نقل السلطة للعراقيين في شهر يونيو من العام الماضي إلى أي تغيير عملي في حجم الخسائر الأميركية،

وكذلك الأمر كان بعد انتخابات مطلع العام الجاري، وهكذا سيكون الحال بعد المحطات السياسية المقبلة في الاستفتاء على الدستور، ثمَّ في الانتخابات المقرّرة في مطلع العام المقبل. الديمقراطية الأميركية لم تحقّق الاستقرار للأميركيين وللعالم، والفوضى العراقية لن تحقّق الديمقراطية للعراقيين والمنطقة!.

مصادر
البيان (الإمارات العربية المتحدة)