"كرش الفيل" من كنايات السودانيين عن ضخامة الشىء المفرطة واحتوائه على متباينات فى الخلقة والمحتوى ولتأكيد المعنى قد يصار الى كناية أخرى مصاحبة هى لحم الرأس! فيوصف الشىء المتباين المحتويات بلحم الرأس. وقد يحمل هذا التشبيه للشىء أحيانا ظلال التبرم بالتنوع والأسى على افتقارالمكنى للتجانس. هذا رغم أن لحم الرأس أكلة محببة لدى البعض لذات التنوع والتباين الذى يميز اجزاءه المختلفة بحيث لا يترك الآكل شيئا حتى الشفة التى يستعصى فى أغلب الأحيان نزع صوفها فتؤكل به! ولحم الرأس يطلق عليه فى حوارى مصر والسودان "النيفة" والنون هنا شىء بين النون والجيم مما ليس له رسم فى العربية. و(النيف) فى العامية الجزائرية هو الأنفة وعزة النفس وهو مأخوذ من الأنف وشموخه رمزا للعزة والاعتداد بالنفس. فهل أطلق محبو لحم الرأس اسم أنف الراس عليه على طريقة تسمية الكل ببعض أجزائه وهو جائز فى اللغة رغم محاذير ما تحتويه أنف الكبش من الهوام فى أغلب الأحيان مما يفسد الشهية؟ ولحم الرأس كان موضع تدليل فى كثير من مطاعم المشويات التى كانت تشتهر بها العاصمة الخرطوم اذ كانوا يسمونه "الباسم"!!رغم أن التبسم فى هذه الحالة مما لايحمد لأنه صنو التبسم الذى يميزالجماجم النخرة شارة الموت وعنوان الخراب!!وقد خلع الرومانسيون من محبى الأكلة عليه اسم "ذو العينين" فتأمل! ولعلنا نكتفى بهذا الاستطراد فى تشقيق القضايا فى المآكل والمشارب سيما ونحن فى شهر الصوم وندلف الى شىء من الجد الذى لا هذر فيه.

الذى ساقنا للحديث عن كرش الفيل ولحم الراس ملف موغل فى الجد جعلته" مجلة نيويورك تايمز" , وهى نشرية أسبوعية تصدرها اليومية المشهورة رفقة عدد ألأحد المتميز, عنوانا لغلاف عدد الأحد الثانى من أكتوبر لهذا العام الميلادى خمسة وألفين.

شارك فى كتابة مقالات الملف عدد من كتاب الصحيفة المرموقين. والرسالة الرئيسة التى رمى الملف الى ابلاغها هى أن نيويورك والتى تعتبر افضل مثال لمدينة عالمية (كوزموبوليتان) بما حوت من عناصر واعراق وثقافات من شتى أنحاء المعمورة أى "كرش فيل " أو لحم رأس, لم تجعلها تلك الصفة مهدا لنشأة الفكر السياسى المتفتح وحده والذى يرمز اليه فى الولايات المتحدة تحديدا بالفكر الليبرالى ( كلمة ليبرالى فى الولايات المتحدة هى نقيضة كلمة محافظ و تحمل ظلال كلمة " يسارى" أحيانا وتبعاتها ضمن ما تحمل من دلالات سياسية واجتماعية واقتصادية وهذا الفهم يختلف عن مضمون الكلمة فى المصطلح الأوروبى حيث تستخدم الكلمتان كالمترادفات ), بل مهدا للفكر المحافظ والمنغلق أيضا الذى ترعرع هو الآخر وشب عن الطوق فى عرصاتها! ليس الفكر المحافظ التقليدى وحسب بل فكر المحافظين الجدد أيضا. ولابراز هذه الفكرة التى تبدو مناقضة للصيت الذى عرفت به نيويورك كرمز للتحرر فى ميادين السياسة والفنون والاجتماع, ولتصحيحها أيضا و بقوة فقد زينت المجلة غلافها بصورة السيد (ويليام باكلى) أحد أبرز رموز الفكر السياسى المحافظ فى الولايات المتحدة والذى يناهز الآن الثمانين من عمره .

ويفرد الملف مساحة للحديث عن نشأة وتطور مدينة نيويورك سبرا للمكونات التأريخية والثقافية التى أسهمت فى ما آلت اليه المدينة اليوم وما جعلها مدينة متفردة تحوى الشىء ونقيضه وتلعب دورا مؤثرا فى الحياة السياسية والثقافية على نطاق الولايات المتحدة وربما العالم اما بالفعل أو بردود الافعال المناهضة والمقاومة له.

مدينة نيويورك كانت مستعمرة هولندية ظل اسمها "نيو أمستردام" أو "امستردام الجديدة" حتى عام 1664ميلادية حيث اشترتها بريطانيا من هولندا مقايضة بنوع من التوابل أو المكسرات مرغوب فى هولندا وأصبحت منذ ذلك الحين جزء من "انجلترا الجديدة" " أو نيو انجلاند" وحملت اسمها الحالى" نيو يورك" أو يورك الجديدة مسماة على مدينة( يورك) البريطانية.

وسبب التفرد الذى تتميز به نيويورك منذ ذلك الحين هو الارث الذى تأسست عليه. يقول (راسل شولتل) ان مدينة نيويورك عندما كانت تحمل اسمها القديم "نيو أمستردام" فى القرن السابع عشر كانت من أكثر بقاع الأرض التى تتعدد وتتعايش فيها الثقافات حيث كانت تتساكن فيها ثمانية عشر لغة مختلفة يتردد صداها جميعا فى شوارع المدينة التى لم يتجاوز عدد سكانها عندئذ الخمسمائة نسمة. يقول الكاتب " ان هذا التنوع هو الذى رفد مخزون نيويورك بالتمازج والانصهار الأثنى" عبر طهى هادىء استغرق قرون. ويرجع تباين التيارات والرؤى فى نيويورك الى هذه النشاة المتعددة الأوجه.ويضيف " اذن فان مدينة نيويورك تحمل منذ نشأتها مكونات جعلتها مختبرا للامة يفرخ الفكر السياسى." لآ غرو اذن أن تنشأ فيها تيارات متعارضة فقد تأسس فيها الحزب الشيوعى ألامريكى والحركة الليبرالية واللجنة الوطنية لرعاية الملونين والمحافظون الجدد والتقليديون وحركة حقوق الشاذين جنسيا. ونيويورك هى أول مستعمرة بريطانية فى أمريكا تؤسس حزبا معارضا للاستعمار البريطانى فى ثلاثينيات القرن الثامن عشر وأنطلقت منها أول صيحة مطالبة بحرية الصحافة عام 1735 على لسان الناشر جون بيتر زينجر.

ويعمد الكاتب الى شىء من توضيح النشأة الثقافية المتميزة لهذه المدينة فيشير الى أن الهولنديين الذين أسسوها كانوا من ضحايا محاكم التفتيش الاسبانية لذلك تأسست المدينة على غرار سائر المدن الهولندية فى هولندا الجديدة التى كانت تعج بالأقليات على قيم التسامح البروتستانتى الأمر الذى ساهم فى خلق مناخ التعدد فيها بينما سادت تعاليم المذهب التطهرى(بيوريتانزم) الفضاء المطبق على نيوورك فى نيوانجلاند وهو مذهب متشدد رغم أن أتباعه كانوا قد هربوا من جحيم اللاتسامح فى أوروبا الا أنهم مارسوا اضطهاد ومضايقة مخالفيهم فى المذهب عندما قويت شوكتهم فى الأرض الجديدة ذلك لأن أتباع المذهب يؤمنون ان الحقيقة المطلقة يمتلكها مذهبهم وحده ولا توجد فى مذهب سواه.والشاهد أن ليبرالية نيويورك قد قامت على أسس دينية لكنها أسس متفتحة للمذهب البروتستانتى لا تلغى الآخر بينما قامت أسس الحياة الاجتماعية والسياسية فى ولايات نيو أنجلاند على أسس دينية تنتسب هى الأخرى للمذهب البروتستانتى الا أنها قامت على مذهب متشدد هو مذهب التطهريين. ويعجب المرى هنا كيف لم تسعف روح التسامح تلك التى طبقت فى نيويورك أتباع الكنيسة الهولندية الذين أقاموا نظام التميز العنصرى فى جنوب افريقيا.

ويشير الكاتب هنا الى أن نجاح أتباع مذهب( التطهريين) فى بناء أسس لحياة أفضل فى أمريكا قد حملهم على الاعتقاد أن أوروبا التى هجروها بسبب الاضطهاد هى موطن الفساد وأن العالم الجديد فى أمريكا هو أرض الميعاد وأنهم هم شعب الله المختار وأن ارضهم الجديدة هى اسرائيل الموعودة. ويضيف قائلا ان هذا الاعتقاد ظل راسخا فى السياسة الأمريكية حتى اليوم يرفدها دوما بمعنى رسالى. وكان الدكتور هنرى كيسنجر قد أكد رسوخ هذه القناعة لدى الأمريكيين. لذلك –كما يرى الكاتب- فانه من السهل على القادة السياسيين "الضغط على الزر السحرى " حسب عبارته , لضمان حشد الدعم الشعبى لسياسات الحكومة خاصة ازاء العالم الخارجى للالتفاف حول "الثالوث المقدس: الله, أمريكا ,الحرية." يقول هذه المعانى المستوحاة من ذلك الارث الدينى أبعد أثرا فى التأثيرعلى الناس من مجرد التلفح بالعلم (بفتح العين واللام) الأمريكى. ويدلل على قوة هذا البعد الدينى الرسالى فى السياسة الخارجية للولايات المتحدة بتأكيدات الرئيس الديموقراطى (ويدرو ويلسون) صاحب الوصايا الأربعة عشر ان الولايات المتحدة صاحبة "رؤى لاتراها الأمم الاخرى" وأن تلك الرؤى والقناعات الرسالية قد أصبحت "عاملا يتحكم فى حركة التاريخ الانسانى" واستشهد بآية فى اصحاح متى تقول بل انها أصبحت "نور العالم" أى الذى يبدد الظلمات. ويستشهد الكاتب أيضا بكلمات الرئيس بوش عندما عقد العزم على غزو العراق "اننا نمضى قدما بثقة لان هذا النداء التاريخى قد وجد البلد المناسب والمؤهل لتحمل تبعاته." ويستطرد الرئيس جورج دبليو بوش قائلا " ان الحرية التى نثمنها نحن هنا ليست هبة أمريكا الى العالم انها هبة الله للانسانية." ويعلق الكاتب بأن" ارجاع كل المشروع الوطنى لأسس دينية كان على الدوام مصدر قوة هائلة للولايات المتحدة." ويؤكد بأن هذا العامل أصيل ومتجذر فى الفهم الأمريكى للعالم ولدور أمريكا فيه مشيرا الى أن كثيرا من الآباء الأوائل المؤسسين كانوا يرون أن يد الله كانت فوق أيديهم عندما كتبوا " اعلان الاستقلال" عن بريطانيا وعندما كتبوا الدستور الأمريكى.وبتلك الروح كتب الصحافى (جون أوسيليفان) فى ذلك الوقت انه من حقهم الانتشار فى هذه القارة " التى خصتنا بها العناية الالهية" وتطويرها.

ونيويورك ظلت تعانى منذ نشأتها بهذه الكيفية المتفردة من مشكلة تصوروانطباع سلبى لدى الآخرين عنها حيث كتب أحد الضباط الانجليز فى القرن السابع عشر يشكو من تعدد أعراق البشر فيها. حتى أحد حكامها كتب لأحد حكام مناطق نيوانجلاند يغبطه على نقاء اعراق الناس عنده شاكيا من أن سكان نيويرك من "حثالة’" الأمم والشعوب! ولا تزال الجماعات المحافظة خاصة الموجودة خارج نيويورك تنظر اليها بعيون الشك والريب.

وكما ورد آنفا فان أميز نتاج للتعددية العرقية والثقافية فى نيويورك هو بروز الفكر الليبرالى المتسامح دينيا وعرقيا والذى تطور فاكتسب محتوى اجتماعيا على يد الرئيس فرانك روزفلت باقرار ماعرف بالتعاقد الجديد الذى خفف من قسوة الرأسمالية باعتماد برامج لدعم التعليم والصحة والسكن استفادت منها الاقليات والفقراء أدت الى شبه نزوح جماعى للسود واليهود من الحزب الجمهورى لينضموا للحزب الديموقراطى حزب الرئيس روزفلت فى ثلاثينيات القرن الماضى. لكن وكما ورد فى ثنايا الملف فان شخصيات مرموقة من التيار المحافظ قد انطلقت من نيويورك ذكرنا منها ويليام باكلى مؤسس مجلة " ناشونال ريفيو" لسان حال اليمين الجديد عام 1955 والمجلة لازالت تصدر لسانا لليمين المحافظ. ويرى الكاتب أن المجلة المذكورة هى التى وضعت البذرة التى أينعت فى مابعد وأثمرت حملة قولد ووتر عام 1964 للرئاسيات تلك الحملة التى انتزعت ترشيح الحزب الجمهورى من مؤسسات الحزب القوية التى كانت تساند ترشيح رمز من رموز الحزب الجمهورى المرموقة هو حاكم نيويورك روكفلر. وقد تطور هذا التيار فى ما بعد مما أدى لبروز( الريجانية) (نسبة الى الرئيس رونالد ريجان) وهو تيار ظل يتنامى منذ ذلك الحين الى اليوم حيث يسيطر الآن على الجهازين التشريعى والتنفيذى ولا نغفل هنا الفوارق بين تيارات اليمين المنضوية تحت مظلة المحافظين العريضة فهناك اختلافات جوهرية بين المحافظين والمحافظين الجدد .

وتولت مجلة (ناشونال ريفيو) مهمة مناهضة الشيوعية ومعارضة قوانين الحقوق المدنية والدعوة لاقتصاد السوق. ونشير هنا الى شخصيات نيويوركية محافظة ويمينية رغم الصبغة العامة المميزة للمدينة منهم الحاكم الأسبق روكفلر المشار اليه منذ حين والعمدة( لآغوارديا) الذى اطلق اسمه على احدى مطارات نيويورك والعمدة السابق والذى لايزال يتمتع بشعبية واسعة ( رودلف جيلانى). ونذكر من المحافظين الجدد وليام كريستول وابنه كريستول محرر (ويكلى أستاندرد) وتجدر الاشارة الى أن حاكم ولاية نيويورك الحالى جمهورى وكذلك عمدة مدينة نيويورك فى مدينة يعتبر 12% فقط من سكانها من الجمهوريين!. ويشير الملف الى أهمية نيويورك فى الوقت الحاضر فى تشكيل وصياغة السياسة الأمريكية مفردا مقالة كاملة عن تأثير السناتور هيلارى كلينتون حرم الرئيس السابق والتى تمثل حاليا ولاية نيويورك فى مجلس الشيوخ الى جانب سناتور آخر, والتى تنوى ترشيح نفسها فى الانتخابات الرئاسية القادمة عن الحزب الديموقراطى مشيرا الى تاثيرات تيارات نيويورك المختلفة على شعارات حملتها الانتخابية. ويتناول الكاتب بعمق التيارات التى تتجاذب الحزب الديمقراطى حاليا والتى تجعل مهمة توحيد الحزب على رؤية جامعة تضمن له الفوز أمرا بالغ الصعوبة عام 2008.

الملف ملف كبير حوى معلومات صحافية معمقة -هذا لكى لانقول أكاديمية- ذات فائدة لا تخفى للمهتمين بتاريخ تطور الفكر السياسى فى الولايات المتحدة والطبيعة المتفردة لمدينة نيويورك التى ساهمت بقدر وافر فى تأسيسه وتكريسه.

وقد حملنى على الكتابة عنه ماانقدح فى نفسى من قرائته من التساؤلات وربما العبر.

ومن تلك العبر أن التعدد الأثنى والعقائدى والثقافى يمكن أن يفضى الى نوع من التوحد الخلاق الذى يطور التعدد العرقى والثقافى الى تعدد فعال فى الرؤى والأفكار تتلاشى عنده العرقيات والجهويات ويتخذ الصراع شكلا أشبه بصراع مشجعى الفرق الرياضية يفضى الى تنافس حبى فى تخير ما ينفع الناس ويمكث فى الأرض.

وكما ترى عزيزى القارىء .... فان الكنايات السالبة مثل كرش الفيل أو لحم الرأس لا تعبر بالضرورة عن شر مستطير بل بالتعدد والتباين يزدهى الكون وبكثرة الخيارات والمسارات يجد كل منا سبيلا فى الحياة يروقه ويجعل لمعاشه مذاقا وطعما. وأخوف ما يخافه الناس من العولمة أن تقضى على هذا التنوع الذى يزين الحياة فيكسر فيها سياجات الرتابة والملل.