الجدل

في الرابع من يناير 2006 بعث مركز سيمون فيزونتال, المنظمة اليهودية الأشهر في ميدان الدفاع عن حقوق الإنسان, برسالة إلى الرئيس الفنزويلي هيغو تشافيز فرياس تلزمه عبرها على الإعتذارعلنا على ما صدر عنه من تصريحات معادية للسامية. بتواز مع ذلك, راسلت الجمعية ذاتها كلاً من الرئيس الأرجنتيني والبرازيلي والبراغوايي ثم الأوروغوايي طالبة إليهم سد الطريق أمام فنزويلا ومنعها من الإنضمام إلى "الميركوزير" (السوق المشتركة اللاتينية) ما لم يقدم هيغو تشافيز اعتذاراته علنا.

مباشرة بعد ذلك, سارع مراسل وكالة رويترز في كاراكاس (فنزويلا) بالرد عبر برقية رسمية. والحال أنه تصرُف بحذر شديد. إذ أوضح وبجلاء أن النص الرسمي لما جاء على لسان الرئيس يختلف عن الإستشهاد الذي نشره مركز فيزونتال والذي انطوى على المقطع المسيء للظُن.
أما نسخة البرقية باللغة الإنجليزية, والتي تم نشرها 15 ساعة بعد ذلك, فلقد أعيدت كتابتها من طرف الإدارة. كما لم تتم قط إعادة نشر الإستشهاد ذلك, في الوقت الذي أوضح فيه الصحافي بأن الرئيس تشافيز لم يتحدث عن اليهود, لكن حديثه يعطي الإنطباع بأنه تلفظ, وبطريقة تلميحية, بمصطلحات معادية للسامية.

والأدهى من ذلك أن بلاغ مركز فيزونتال تلقفته مجموعة من يوميات اليمين المتطرف في الأرجنتين وفينزويلا, في حين صام أغلبها عن نشر الإستشهاد الصُائب الذي نقلته وكالة الأنباء "رويترز", وهو ما ألهب نيران الجدل القائم.
كما لم تدع الولايات المتحدة الفرصة تمرُ دون تسجيل حضورها في القضية. إذ إكتفى راديو الخارجية الأمريكية بإذاعة رواية المركز المعني متفاديا بعناية فائقة التطرق إلى الإستشهاد السالف الذكر. لاردّ فعل يذكر مرّة أخرى.
ولقد إرتأت اليومية الفرنسية "ليبيرسيون", التي يملكها "إدوارد دو روتشيلد", في نهاية المطاف إلى إحياء الجدل ثانية, حيث نقلت وبتهوّر فادح تصريح الرئيس تشافيز...مع بتر فقرات منه. ولإثبات التهمة ضده, أضافت "ليبيراسيون" أن الرئيس تشافيز كان قد إتخد عالم الإجتماع الأرجنتيني "نوربيرتو سريزول" مستشارا له لمدة سنة. هذا الأخير حرصت الجريدة على تقديمه كشخص تعديلي ومناصر للديكتاتورية العسكرية.

يذكر أن كاتب المقال, الصحافي الفرنسي "جون إيبير أرمينغو", معروف بمعارضته الشخصية للثورة البوليفارية, كما هو حاله حيال كافة الأنظمة التقدمية في أمريكا اللاتينية. كما سبق له أن وقّع مقالات عديدة مناوئة لسياسة "فيديل كاسترو" و"جون بيرنارد أريستيد".
ولقد تناقلت كل من "أسوشيايتد بريس" وجريدة "لوموند" مقال "أرمينغو", معلنة انطلاق الشائعة القذفية تلك.

التلاعبات

إن الرئيس تشافيز, حسب مركز سيمون فيزونتال, كان قد صرّح بأن: "العالم ملك للجميع, غير أن أقليات منحدرة من أولئك الذين صلبوا المسيح أنفسهم, إستولت على خيرات العالم". التصريح ذلك سيتّخد فيما بعد اللازمة المبتذلة القديمة و المعادية للسامية باتهام اليهود بقتل المسيح وبالإستيلاء على الخيرات.
أما جريدة "ليبيراسيون" فرأت أن الرئيس تشافيز قد عيّن "سادة العالم" حين صرّح : "نحن مشتاقين إلى عيسى أكثر من أي وقت مضى(...),غير أن أقليات منحدرة من أولئك الذين صلبوا المسيح(...), إستولت على خيرات العالم(...) وحصرت الغنى ذلك بين أيادٍ معدودة".
والحال أن كلا المصدرين, أي مركز فيزونتال وجريدة "ليبيراسيون", لم يتطرّقا لا إلى الظّروف التي جاء فيها هذا التصريح, ولا إلى الحضور الذي طاله.

إن هيغو تشافيز, قي واقع الأمر, كان قد ألقى بتصريحه ذلك أمام جمعية كاثوليكية يسارية عشية عيد ميلاد المسيح. وكان قد صرّح قائلا بالتحديد أن: " العالم ملك للجميع, غير أن أقليات منحدرة من أولئك الذين صلبوا المسيح أنفسهم, وطردوا بوليفار من هنا وصلبوه بطريقة ما بـ"سانتا مارت"ا, في كولومبيا, أقلية منها إختلست خيرات العالم, أقلية إستولت على ذهب الكوكب والمال والمعادن والماء والأراضي الخصبة والنفط, أي الخيرات, وحصرتها بين أيادٍ معدودة: إذ أن أقلّ من 10 في المائة من ساكنة العالم تنفرد بأكثر من نصف خيراته ".

سيرجيو فيدر
مدير مركز فيزونتال في "بوينس أيريس".

ولقد إعترف مدير مركز فيزونتال في "بوينس أيريس" ’سيرجيو فيدر’, مجيبا على سؤال لشبكة فولتير, إعترف بحقيقة "وجود هامش من اللّبس إكتنف التصريحات تلك". كما أقرّ بأن:
- الرئيس تشافيز لم يكن بصدد الحديث عن اليهود, سواء كان ذلك بطريقة واضحة أو ضمنية.
- علماء اللاهوت التحريريين, الذين ينشّطون المركزالمحلّي للتنمية الإنسانية الشاملة , حيث ألقى تشافيز خطابه عشية عيد ميلاد المسيح, أولئك العلماء لايحمّلون مسؤولية موت المسيح عيسى لليهود, بل للإمبراطورية الرومانية. وأن أولئك العلماء أنفسهم يُنمّون روحيّة مفادها أن المسيح دلّ على درب التحرير الداخلي والسياسي في وجه الإمبريالية.
- الأقليات التي رأى تشافيز بأنها تشترك مع قتلة المسيح في النوايا تمثّلها الطبقة الفنزويلية الحاكمة التي طردت بوليفار وتركته يلقى حتفه في كولومبيا, والنظام الشامل الحالي الذي يحصر الغنى في أياد 10 في المائة من ساكنة الأرض.

ومهما كان الحال فإن السيد "فيرد" يحنفظ جزئيا باتهاماته بحجّة أن المهمّ ليس ما جاء على لسان الرئيس تشافيز, بل ما ربما يفهمه الحضور. وأن قائدا بهذه الأهمية يجدر به توضيح مضامين تصريحه وتجنّب الإلتباس. ومع ذلك فإن السيد "فيدر" يقرّ بأن تصريح الرئيس تشافيز كان واضحاً بالنسبة للحضور وأنه غير قادر على إعطاء أمثلة للهيئات, ما خلا مركز فيزونتال, التي ترجمت فحوى خطابه بالمعاداة للسامية. بالإضافة إلى ذلك فإن السيد "فيدر"حرص على التوضيح بجلاء أن مركز فيزونتال ليس له رأي في السياسة العامة للسيد تشافيز.

الرهانات

إن الجدل ذلك, بدلاً من الإستناد إلى أدلُة حقيقية, يعكس رهانات واضحة وجسيمة. كما أن مركز سيمون فيزونتال, بعيدا عن حصره في جمعية يهودية للدفاع عن حقوق الإنسان, فهو معروف بقيادته لمطاردات ناجحة للمجرمين النازيين, وكونه أيضا هيئة دعم للسياسة الإسرائيلية. لذلك فإن اعتزاز شبكة فولتير بنضالها إلى جانب مركز سيمون فيزونتال في محاربة انبثاق معاداة السامية من جديد, موقفها ذلك لايعني أنها تتُفق مع كلُ تصريحات المركز السالف الذكر.

يذكر أن المركز ذاته كان قد نظُم أواسط الثمانينات مؤتمرات ومحاضرات عدُة في موضوع الإرهاب. المناسبات تلك لم تكن في واقع الأمر سوى منتديات أريد بها الطعن في شرعية المقاومة الفلسطينية. قبل أن ’يقدم المركز على نشر تقرير لا أساس له من الصحُة يتُهم فيه عددا من الشركات الفرنسية والألمانية بإمداد "صدام حسين" بغازات قاتلة قصد إبادة الشعب العراقي.

في العام 1992, قدُم المركز عريضة لدعم حزب القائد البوسني "علي عزت بيغوفيتش" ولطلب تدخل هيئة الامم المتحدة, بيد أن "بيغوفيتش" واحد من المناضلين النازيين القدامى, لكن المدعومين من طرف إسرائيل. أما في الوقت الحاضر فإن المركز يركز جهوده في النضال ضد إيران.

تجدر الإشارة كذلك إلى أن موقع المركز على الإنترنت يقدٌم عروض رحلات إلى إسرائيل تشمل لقاءات مع "القادة الإسرائيليين الآنيين والآتيين", وزيارة لقاعدة عسكرية تابعة للجيش الإسرائيلي.
ومن بين ما جاء في بيانه حول ما صرح به تشافيز, قارن المركز هذا الأخير بالرئيس الإيراني "محمود أحمدي نجاد". أبعد من ذلك, إنتهزت "ليبيراسيون" الفرصة للتذكير بأن الزيارة الرسمية الأولى لـ"أحمدي نجاد خارج إيران كان يفترض بها أن تحمله...إلى فينزويلا حيث سينزل ضيفا على نظيره تشافيز.
بصيغة أخرى, فإنه وفي الوقت الذي تعدٌ فيه الولايات المتحدة وإسرائيل حملة عسكرية ضد إيران وتحاولان فيه عزل طهران ديبلوماسيا, يطلٌ علينا مركز فيزونتال بأكذوبة يراد بها تلفيق تهمة معاداة السامية بالرئيس تشافيز لعزله بدوره.
ولقد تطرقت اليومية الفرنسية السالفة الذكر من جهتها إلى نموذج "نوربيرتو كيريزول", أحد المستشارين السابقين لهيغو تشافيز, واصفة إيٌاه بالتعديلي. دون الإشارة, عمدا, من جهة إلى أن نزعته التعديلية ذاتها هي التي دفعت بـالرئيس الفينزويلي إلى فصله من منصبه, ومن جهة أخرى إلى أن السيد "كيريزول" كان مستشارا للقادة الإيرانيين. وهو ما سمح له بلعب دور رئيسي في التقريب بين كاراكاس وطهران داخل منظمة الدول المصدرة للنفط (أوبك).

ولكي يضمن دعم وزارة الخارجية الأمريكية لمقصده ذلك, دأب مركز فيزونتال في كل مرة على ربط مسعاه بمحاولة سدٌ باب الإنخراط في "ميركوسير" (تجمع إقتصادي يضم الأرجنتين والبرازيل والباراغواي والأوروغواي) أمام فينزويلا, بطريقة تنعش مشروع التبادل الحر الذي حاول الرئيس "جورج بوش" عبثا فرضه على قمة "مار دل بلاتا".

إن الإتهامات القذفية التي روج لها مركز فيزونتال ليست سوى نقطة في لائحة واسعة من الحملات الصحافية ضد الرئيس تشافيز. هذا الأخير ما فتأ وفي مناسبات عدٌة ’وصف بـ"الغولبيست" وبـ"الغول" وبـ"الديكتاتور" و"الشعبي" وما إلى ذلك.
وإنه لمن المؤسف أن نرى مركز فيزونتال, الذي يحيٌي فيه الجميع نضاله ضد النزعة النازية, ينضم إلى هذه الحملات ويفسد بذلك الحملة ضد معاداة السامية, مختزلاً إياها في تلاعب سياسي هدفه خدمة المصالح الإسرائيلية لا أقل ولا أكثر.

ترجمه خصيصا لشبكة فولتير: حكيم إدلسان
جميع الحقوق محفوظة
2006 ©