سجلت الديمقراطية الفرنسية انتصارا على نفسها وعلى متطرفيها. فبعد ان اقتنع المحللون بأن طلاقا نهائيا قد حصل بين الفرنسيين والسياسة منذ عقود شهدت تراجعا مستمرا لنسبة المشاركين في الاقتراع جاءت هذه الانتخابات لتنفي هذه القناعة اذ بلغت نسبة هؤلاء 85 في المائة للمرة الأولى منذ عام1965. وللمرة الأولى منذ ثلاثين عاماً يتراجع اليمين المتطرف بزعامة جان ماري لوبان الذي ينهي حياته السياسية بخسارة مليون صوت عن العام 2002 عندما نافس جاك شيراك في الدورة الثانية. وللمرة الأولى في الجمهورية الخامسة ليس من بين المرشحين للاليزيه رئيس للجمهورية أو للوزراء أو للنواب، حالي أو سابق، أو عضو في الحكومة التي تشرف على الانتخاب. وللمرة الأولى ايضا يخوض المرشحان المتنافسان معركة الرئاسة للمرة الأولى في حياتهما، من دون ان ننسى ان احدهما امرأة وهذا بدوره يحصل للمرة الأولى في فرنسا. وللمرة الأولى سيكون الرئيس الفرنسي المقبل في الثانية أو الثالثة والخمسين من العمر فقط.

كذلك انها المرة الأولى منذ ثلاثين عاماً التي يحصل فيها المرشحان الفائزان على هذه النسبة المرتفعة (94.56 في المائة) من الاصوات (في العام 2002 حصل المرشحون الاوائل الثلاثة معا على نسبة 9.42 في المائة) وللمرة الأولى منذ عشرين عاماً يبتعد عنهما الذي وصل إلى المرتبة الثالثة بهذا الفارق من الاصوات (5.18 في المائة لبايرو في مقابل 11.31 لساركوزي و83.25 لرويال). وللمرة الأولى لا يتخطى أي من المرشحين الصغار التسعة عتبة الخمسة في المائة. وللمرة الأولى يمسك مرشح مهزوم، هو مرشح الوسط فرانسوا بايرو، بمفاتيح الاليزيه فيغدو المنتصر الحقيقي. ذلك أن أصواته سترشح كفة المرشح الذي ستصب لمصلحته في الدورة الثانية. وقد بدأ الصراع عليها منذ اللحظة كذا السباق على مغازلة واغراء بايرو الذي أعلن عن نيته تشكيل حزب جديد هو “الحزب الديمقراطي” الذي يود احداث تغيير عميق في المشهد السياسي والحزبي القائم والمنقسم بين يمين ويسار.

هزيمة بايرو تعني ان الفرنسيين لا يزالون يركنون إلى الثنائية الحزبية رغم أنهم أعطوا للوسط هذه المرة ما لم يعطوه له في العام 2002 عندما جاهد ليتخطى عتبة الخمسة في المائة من الاصوات. لكن المفارقة ان المعركة النهائية سوف تدور رحاها حول أفكار وطروحات الوسط طمعاً في اصواته وبعد ان تم دحر الأحزاب المتطرفة يساراً ويميناً.

لكن هذا لا يخفي حقيقة ان ساركوزي قد تمكن من حصد هذه النسبة الأعلى لمرشح يميني، منذ العام 1974 (وقتها حصل فاليري جيسكار-ديستان على 6.32 في المائة)، لأنه عرف كيف يصطاد في مياه هذا اليمين المتطرف العكرة إلى درجة ان لوبان اتهمه بأنه يسرق أفكاره لاسيما المتعلق منها بالهوية الوطنية والهجرة مع الوعد بإنشاء وزارة خاصة بهذا الشأن. أما من جهة اليسار فقد نجحت رويال في الارتقاء الى مستوى معلمها فرانسوا ميتران، في عام 1981 عندما اضحى رئيسا، بفضل “التصويت المفيد” الذي لجأ إليه الناخبون اليساريون المتوجسون من تبعثر اصواتهم كما حصل في العام 2002 عندما خسر زعيم الحزب الاشتراكي ليونيل جوسبان منذ الدورة الأولى لمصلحة لوبان في حين كانت استطلاعات الرأي ترجح وصوله إلى الاليزيه.يومها حصل مرشحو الاحزاب اليسارية الاخرى على نسب معقولة من الاصوات ذهبت من طريق جوسبان. هذه المرة مثلا لم يتخط كل من التروتسكيين والخضر وجوزيه بوفيه وحتى الحزب الشيوعي نفسه الاثنين في المائة من الاصوات.وللتذكير فقط كانت قوة الحزب الشيوعي في ثمانينات القرن المنصرم تدور حول الخمس عشرة في المائة ما جعله شريكا اساسيا إلى جانب الحزب الاشتراكي في الانتخابات والحكم على السواء.

اليوم تغيرت الاوقات واختفى”اليسار المتعدد” كما كان يقول جوسبان أو “شعب اليسار” كما كان يحلو لميتران ان يردد في مناسبة وغيرها. لذا ستكون مهمة رويال شاقة في الايام المقبلة وسيكون عليها التعويل كثيرا على الوسط الذي اقترحت التحالف معه وليس على “خزان” ينضب من اصوات اليسار. لكن ساركوزي يملك سلاحا ماضيا في وجه بايرو اذا لم يتعاون معه،فقد هدد منذ اللحظة بان يرشح “حزب الاتحاد من اجل حركة شعبية” الذي يتزعمه مرشحين في كل دوائر حزب الوسط في الانتخابات التشريعية المقبلة في يونيو/حزيران المقبل وهذا،اذا حصل، من شأنه ان يصيبه بهزائم في عدد كبير من الدوائر الانتخابية. ولن يكون بمستطاع بايرو ان يفك تحالفا انتخابيا قائما منذ عقود طويلة لمصلحة مرشحة اشتراكية قد تعجز عن هزيمة ساركوزي. وجل ما يطلبه هذا الاخير، الواثق من قدرته على استحواذ اصوات الوسط، ان يبقى بايرو على الحياد وهو ما سيفعله الاخير على الارجح طمعا ربما في تقوية حظوظه كمرشح لرئاسة الوزراء.في هذه الحال سيكون على رويال الاستمرار في حملتها تحت شعار “كل شيء ما عدا ساركوزي” الذي لا يبعث الثقة في نفوس الفرنسيين الذين ربما صوتوا له لمجرد تسجيل الاحتجاج وليس بالضرورة رغبة منهم في رؤيته بسكن الاليزيه. لكن هذا ما لا تقوله استطلاعات الرأي التي لا تزال تعتبره الاوفر حظا في الدورة الثانية. وبالمناسبة فإن استطلاعات الرأي بينت في هذه الانتخابات عن مصداقية مرتفعة اذ إن توقعاتها قد تحققت بشكل ملفت.

في الأسبوعين الفاصلين ما بين الدورتين الأولى والثانية من السباق إلى الاليزيه يتجه اليميني ساركوزي إلى اليسار في طروحاته ووعوده في حين تستدير اليسارية رويال إلى اليمين، فيلتقيان في الوسط. هذه هي الديمقراطية التي تنتصر على متطرفيها لأن الفوز في سباقها يجبر المرشحين على رفع شعارات الوحدة والتجمع والتضامن وحماية الضعفاء ومساعدة الفقراء وما شابه. هذا رغم ان التجربة لا تنفك تثبت ان الوعود الانتخابية شيء وممارسة السلطة شيء آخر. لكنها قواعد اللعبة.

بعد صدور النتيجة مساء الاحد المقبل سوف ينصرف الجميع للاستعداد لمعركة انتخابية جديدة (حول مقاعد البرلمان) بعد شهر واحد لتنفتح بعدها معركة أخرى حول المقاعد البلدية بعد أقل من عام ثم الانتخابات البرلمانية الاوروبية، وعيون الجميع تبقى مشدودة نحو الاليزيه بعد خمس سنوات. في أوساط بايرو يقولون انه بدأ منذ اللحظة يستعد للمعركة الرئاسية المقبلة على رأس حزب سياسي جديد.

مصادر
الخليج (الإمارات العربية المتحدة)