ظاهر المشهد يوحي بأن شيئاً لم يتبدّل حول سرايا بيروت منذ شهور عديدة. ثمة مع ذلك متغيّر ذي بال. فعلاوة على أن خيم الاعتصام غدت فارغة منذ وقت طويل، وبدأت تشتاق لأحد يسكنها، فإن السرايا الحكومية نفسها قد تبدّل، وصارت قلعة منيعة، ليس فقط من الناحية المعنوية أو السياسية، وإنما كذلك من الناحية الأمنية واللوجستية، بحيث يغدو من الصعب أخذها بحركة خاطفة لو أرادها مريد. الحكومة لم تسقط لأن مقرّها حوصر ولم يؤخذ، وما عاد آيلاً إلى السقوط. الاستعارة الجغرافية هنا ليست فقط استعارة، أو هذا ما نزعم، ولعلنا خاطئون.
أما رئيس الحكومة بشخصه فأخذ يحتلّ قائمة الاستهداف السياسي من جانب المعارضة بمجموعها. قبل ذلك بحين، دأب الخارجون من الحكومة وعليها، على تأليب المسيحيين على جعجع، شريك عون في «حرب التحرير»، بحجة أنه صار مرتهناً للسنة، وعلى تأليب السنّة على سعد الحريري بحجة أنه صار صنيعة لوليد جنبلاط، وكانت المعارضة مع ذلك تصرّ على أنها لم تخرج إلا لطلب المشاركة والوئام بين طوائف لبنان وأنها ترتضي بأكثرية ما دون الثلثين لائتلاف 14 آذار، وبفؤاد السنيورة رئيساً للوزراء. طبعاً، من الجانب المقابل لم نكن أمام كتلة جمهورية فائحة بعطور الديموقراطية والحق، إذ أتقنت حصتها من اللعب على الوتر المذهبي.

صار الاستهداف مركزاً اليوم على فؤاد السنيورة، الى درجة اعتباره «رأس الحقد» أي «العدو رقم واحد». طبعاً، ليس يمكن تجاهل أن الرجل أخذ يتفنن بدوره بالغمز المذهبي من النوع الذي لا يليق برئيس وزراء. لكن المصيبة كل المصيبة هي أن المعارضة أخذت تورّط نفسها والبلاد بموقف أنها لن ترتضي بفؤاد السنيورة بذاته رئيساً للوزراء بعد الآن. فماذا لو ردّ أقطاب المعسكر المواجه وعبروا عن عدم ارتضائهم بنبيه برّي رئيساً لمجلس النواب؟ مشكلة المعارضة أنها ترتجل ثم تعد ارتجالها بمثابة تنزيل!

هذا الارتجال يأسر المعارضة. الاعتصام هو مساحة هذا الأسر، أما الفقرة «ياء» من مقدمة الدستور التي تسقط شرعية أي سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك فإنها عنوان الأسر الذاتي ومبدؤه. باسمها يجري سحب الشرعية من مجلس الوزراء خلا المستقيلين منه ثم سحبها من المجلس النيابي خلا رئيسه. لكن هل تخوّل الفقرة كائناً من كان بالحكم؟ إنها سيفٌ مسلّط على المعارضة. كيف يكون فؤاد السنيورة غير شرعي ويكون اميل لحّود شرعياً. وكيف تكون هذه الحكومة غير شرعية وتكون شرعية فزاعة الحكومة الانتقالية التي لن يعترف بها أحد في العالم. هذه الفقرة تسهّل لمن أراد إسقاط شرعية المؤسسات. لكن أن تخوّله الحكم فهذا مستحيل.

في ظل هذا الأسر، لن تجد المعارضة نصاً يقيم حجتها إلا «الفريضة الغائبة» لمحمد عبد السلام فرج، قائد جماعة الجهاد المصرية التي دبّرت اغتيال السادات.

فالمعارضة مصرّة على تحاشي الفتنة. لكن على أساس اعتمادها التمييز نفسه الذي أقامه فرج. فعند فرج أن قتال العدو القريب بات أولى من قتال العدو البعيد. وإلا صار النصر على العدو البعيد مجيّراً بالتلقاء والتمام للعدو القريب. أليس هذا ما يدور في ذهن قطب المعارضة؟
مما توصّل إليه فرج في كرّاسه العنيف، «أن أساس وجود الاستعمار في بلاد الإسلام هم هؤلاء الحكام فالبدء بالقضاء على الاستعمار هو عمل غير مجد وغير مفيد، وما هو إلا مضيعة للوقت». ألسنا نصل إلى هذا المبلغ حين يصبح وصف المعارضة لفؤاد السنيورة بأنه «رأس الحقد»؟!

إن خطاب القطب الرئيسي في المعارضة يلتقي حكماً مع مفاضلة فرج بين عدوين، قريب وبعيد، على اعتبار أن حكومة فؤاد السنيورة هي العدو القريب، وأن فؤاد السنيورة بالذات هو رمز الطاغوت. لكن ما يميز فرج عن المعارضة اللبنانية أنه يقرن هذه المفاضلة بالاحتكام لآية السيف. في حين أن المعارضة تكتفي بالفقرة ياء من مقدمة دستور وضعي.

مع ذلك فإن ثنائية العدو القريب والعدو البعيد لا يمكنها إلا أن تنزع إلى إعمال آية السيف. إلا ان كان بالمقدور الإقلاع عن هذه الثنائية بحد ذاتها. وإذا انزعج أحد ما بهذا التشبيه للمعارضة بخطاب عبد السلام فرج، يمكن تكرار ما نريد إيصاله باستعارة أخرى. فالمعارضة، أو قطبها الرئيسي، حزب الله، باتا أقرب الى خطاب الحركات الليبرالية من حركات التحرر الوطني. إشكالية الحركات الليبرالية في العالم العربي هي كيفية مقارعة الاستبداد. إشكالية حركات التحرر هي كيفية مقارعة الاستعمار. وعلى هذا القياس، تكون إشكالية حزب الله والمعارضة هي إشكالية إسقاط «الاستبداد» ممثلاً بفؤاد السنيورة. فإما أن نكون عندها أمام إشكالية «تكفيرية» على غرار عبد السلام فرج وإما حيال إشكالية «ليبرالية» على هوى سعد الدين ابراهيم، أو بالأحرى في معرض تخليط بين الإشكاليتين، التكفيرية والليبرالية!

مصادر
السفير (لبنان)