هل أفلت العراق من يدّ امريكا؟

ليس بعد، لكنّه في طريقه إلي ذلك.ثمة مؤشرات عدّة في هذا السبيل، ليس اقلها زيارة ابراهيم الجعفري التاريخية لإيران. الهدف مـــــن الزيـــــارة التعجيل في تكريس التقارب بين حكومة بغداد الموالـــية لواشنطن، وطهران التي تعتبرها الولايات المتحدة عدوها اللدود.

الجعفري يسعي، في الواقع، إلي ابعد من التقارب: هو يريد ان تصبح ايران سندا للعراق، إن لم تكن بديلا من أمريكا، عندما تضطر هذه الأخيرة إلي الإنسحاب من بلاد الرافدين. باكورة التقارب إتفاقان.الأول أمني لتقاسم المعلومات الاستخباراتية بغية المساهمة في إرساء الامن في العراق. والآخر استراتيجي لتعزيز التعاون السياسي والاقتصادي بين البلدين بفتح خط ائتمان قيمته مليار دولار لدعم تدفق صادرات ايران إلي العراق.

هذا التعاون الوثيق بين عدوي الامس القريب ما كان ليتحقق لولا ضوء اخضر امريكي. فواشنطن مصممة علي الخروج من العراق بالسرعة الممكنة. المسألة لديها باتت مسألة وقت. بل مسألة حُسن إستثمار الوقت المتناقص لملء الفراغ المتأتي عن إنسحابها التدريجي إعتبارا من نهاية العام الحالي.. الإنسحاب يجب ان يتم قبل منتصف العام المقبل. لماذا ؟ للحؤول دون إستغلال الحزب الديمقراطي فشل جورج بوش وحزبه الجمهوري في ادارة الحرب وإنعكاس تداعياتها ومآسيها علي الإنتخابات الامريكية النصفية في تشرين الثاني (نوفمبر) 2006.

لعل حال امريكا المزرية في العراق شبيهة بحالها في لبنان العام 1983. فقد حضرت آنذاك باسطولها السادس ومشاة بحريتها مع كتيبة من المشاة الفرنسيين لتملأ الفراغ الناشيء عن إنسحاب اسرائيل تحت وطأة تصاعد عمليات المقاومة. لكن قوات امريكا، كما قوات فرنسا، وقعت في فخ المقاومة اللبنانية وفقدت، خلال بضعة ايام، مئات القتلي والجرحي ما إضطرها إلي الهرب، نعم الهرب، إلي قطع الاسطول المحتشدة قبالة الشواطيء اللبنانية.

لتدارك هزيمة مدّوية لجأت امريكا إلي ما يمكن وصفه ديبلوماسيا بأنه أبغض الحلال : تلزيم أمن لبنان لسورية. هكذا دخل لبنان تحت الحماية الامنية وبالتالي الوصاية السياسية السورية التي دامت نحو 30 عاماً.

إن حال امريكا في العراق اليوم تحاكي حالها في لبنان العام 1983. فهي بحاجة إلي بديل يملأ الفراغ الامني الذي سينشأ بالضرورة نتيجة إنسحابها المنتظر من العراق في العام القادم. غير ان سورية ليست مرشحة في العراق لدور مماثل لدورها في لبنان. إنها ايران التي ترشحها امريكا، علي ما يبدو، لتلعب دورا سورياً في بلاد الرافدين.

جدير بالذكر ان امريكا ما كانت لتلزّم سورية أمن لبنان لولا ان دمشق التزمت، باديء الامر، لجم الفلسطينيين وتعطيل دورهم المسلح. الواقع ان دمشق التزمت ذلك لأسباب تتعلق بأمنها القومي من جهة ولتصميمها علي الاحتفاظ بالورقة الفلسطينية من جهة أخري، خصوصا بعدما إنزلق انور السادات إلي مصالحة اسرائيل عقب اتفاقات كامب ديفيد اواخر السبعينات.

لعل النهج نفسه ستسلكه امريكا قبل ان تلزّم ايران أمن العراق. فهي تريد من طهران دعم حكومة اصدقائها العراقيين (الجعفري ورفاقه من اعضاء الإئتلاف النيابي الموالي لها) في وجه المقاومة العراقية والمنظمات السلفية المقاتلة. كما تريد من طهران وقف دعمها لحزب الله اللبناني، قائد المقاومة الاسلامية التي أكرهت اسرائيل علي الانسحاب من لبنان العام 1982 والعام 2000. في هذا الاطار، استصدرت امريكا “وفرنسا” قرار مجلس الامن 1559 وضغطت لتنفيذه بعد إغتيال زعيم المسلمين السنّة اللبنانيين المرحوم رفيق الحريري منتصف شباط (فبراير) الماضي. ذلك ان إخراج سورية من لبنان يكشف، في ظنها، ظهر حزب الله ويساعد علي تفكيك تنظيماته الجهادية وآلته الصاروخية المتطورة، كما يضعف سورية نفسها ويحول دون تشكيلها وايران قوسا شيعيا استراتيجيا يهدد مصالحها كما مصالح اسرائيل.

لماذا تضغط امريكا لتجريد حزب الله من السلاح ؟

لأن لها، كما لإسرائيل، مصلحة استراتيجية في ذلك. فهي وإن كانت تريد تلزيم ايران أمن العراق، إلاّ انها لا تريد لطهران ان تترسمل علي نفوذها في بلاد الرافدين فتصبح قوة اقليمية وازنة. ضفْ إلي ذلك ان إصرار ايران علي بناء قدرات نووية سيضع المصالح النفطية لأمريكا وحلفائها الاقليميين في مهب اخطار شديدة. بل ان أمن اسرائيل القومي سيصبح مهددا اذا قيض لإيران امتلاك قدرة نووية عسكرية. فتوازن الرعب الناشيء عن وجود قنابل نووية لدي اسرائيل وايران سيعطي الاسلحة التقليدية كما الحرب الشعبية والمقاومة الوطنية وحرب غوار المدن والارياف فرصا وادوارا متجددة. وغني عن البيان ان للعرب، في هذه الميادين، قدرات وخبرات ومميزات تفوق بمراحل ما لدي اسرائيل.

أمريكا واسرائيل تتحسبان لهذا التطور الاستراتيجي البازغ وتعملان علي إجهاضه واحباطه. لعل خطتهما في هذا المجال ترتكز إلي محاور جهد ثلاثة:

أولا، تحجيم القدرات النووية الايرانية عن طريق تكليف بريطانيا وفرنسا والمانيا التفاوض مع طهران لمقايضة وقف تخصيب اليورانيوم وبقية انشطة تسلحها النووي بمساعدات اقتصادية وتكنولوجية سخية. وفي حال فشل المفاوضات، توجيهُ ضربات عسكرية مدمرة لما يتيسر تدميره من منشآت ايران النووية بغية إنهاء او، علي الاقل، تعويق مشروعها النووي ما أمكن. الأرجح ان تكلّف امريكا حليفتها اسرائيل بهذه المهمة التدميرية. اسرائيل ستكون ممتنة اذا ما جري تكليفها بذلك، فهي تدرك مخاطر السلاح النووي الايراني علي أمنها القومي ودورها الاقليمي ومصالحها الاقتصادية.

ثانيا، تجريد حزب الله من السلاح او تعطيل قدراته العسكرية بإستخدام اساليب وضغوط سياسية وعملانية، ليس اقلها نشر الجيش اللبناني في منطقتي البقاع الجنوبي والجنوب الشرقي اللبنانيتين المحاذيتين لسورية لقطع طرق الدعم اللوجستي. وفي حال عدم نجاح هذه الاساليب والضغوط، العملُ علي اثارة فتنة طائفية وربما حرب اهلية في لبنان لجذب حزب الله إلي معمعتها وإلهائه في مجرياتها بعيدا عن مواقعه المتقدمة علي مقربة من الحدود مع فلسطين المحتلة ودوره هناك كقوة رادعة وكمقاومة شعبية ناشطة.

ثالثا، تغيير النظام السياسي في سورية او الضغط عليه بأنشطة معادية تنطلق من لبنان والعراق لحمله علي تحييد نفسه إلتماسا للسلامة. وفي حال فشل هذه المقاربة، العملُ علي استنزافه بإثارة القوي الكردية في شمال سورية الشرقي الممالئة للقوي الكردية العراقية المتعاونة مع امريكا.كل ذلك بقصد الحؤول دون إلتقاء سورية وايران في جبهة اسلامية معادية لأمريكا واسرائيل.

لا تستطيع امريكا ان تملي علي ايران، بطبيعة الحال، دورا لتلعبه في العراق. ذلك ان بيد طهران اوراقا عدة تستطيع بواسطتها ان تحسّن مركزها التفاوضي ازاء امريكا كما الاتحاد الاوروبي وسائر دول المنطقة. فنفوذها في العراق كبير، وهي لن تقبل، علي الأرجح، ان تلعب دورا فيه الاّ بعد انسحاب القوات الامريكية والبريطانية منه. هذا الهدف كشفه بوضوح المرشد الأعلي للجمهورية الاسلامية آية الله علي خامنئي اثناء إستقباله الجعفري في مشهد اذ اتهم القوات الامريكية بإلحاق الكثير من الأذي بالعراقيين وشعوب المنطقة ، ومؤكدا ان اولي اولويات ايران ان نري العراق مستقلا وموحدا وآمنا ومزدهرا .

خامنئي لم يدعُ إلي خروج الامريكيين من العراق. الموضوع ما زال، علي ما يبدو، موضع بحث بين طهران وواشنطن في ضوء الدور الذي ينتظر ان تلعبه الجمهورية الايرانية في بلاد الرافدين. المهم ان واشنطن ايدت زيارة الجعفري إلي ايران. ذلك ان المتحدث بلسان الخارجية الامريكية شون ماكورماك علّق عليها قائلا: قلنا دائما اننا نشجع العراق علي إقامة علاقات جيدة مع كل الدول المجاورة بما فيها ايران التي يمكنها ان تلعب دورا أكثر فائدة ...

ما هو الدور الذي ترغب طهران بأن تلعبه في العراق ؟

لن تكتفي بطبيعة الحال بدور امني صرف كالذي تريدها امريكا ان تلعبه هناك. لعلها تتطلع إلي اقامة نظام عراقي مرتبط اقليميا بها ودائر بفلكها، تماما كما فعلت سورية بالنسبة إلي لبنان. نجاحها في هذا الدور يتوقف علي عوامل ثلاثة: موقف امريكا، وموقف اسرائيل، وموقف المقاومة العراقية.

أمريكا واسرائيل ستحاولان تحديد دورهما بمعيار قدرتهما علي منع ايران من امتلاك اسلحة نووية. اما المقاومة العراقية فإن موقفها النهائي تحدده قدرتها القتالية علي الارض ومدي نجاحها في اكراه القوات الامريكية والبريطانية علي الانسحاب بالسرعة الممكنة. لعلها اصبحت أكثر ثقة بنفسها مؤخرا بعد حديث السيد مقتدي الصدر إلي هيئة الاذاعـــة البريطانيـــة بي بي سي . فقد أكد الزعيم الشيعي في حديثه ان كل من يستهدف الامريكيين في العراق يعتبر مقاومة، محمّلا قوات الإحتلال ومن يتعاون معها مسؤولية التفجيرات التي تستهدف المدنيين.

إن تكامل المقاومة العراقية بتعاون ميداني مؤثر من طرف انصار الصدر من شأنه تحقيق امرين بالغي الأهمية: التعجيل في إنسحاب قوات الاحتلال، ودفع ايران إلي أخذ المقاومة في الحسبان، فلا يبقي تعاملها، كما هو الآن، مع الحكومات التي نصّبها الامريكيون في العراق ضد ارادة العراقيين في التحرير والاستقلال والوحدة والامن والازدهار.

ترتفع ايران إلي مستوي اهدافها وشعاراتها كجمهورية اسلامية بمقدار ما تتعامل وتدعم المقاومة العراقية، وليس وكلاء امريكا الذين يسعون الآن إلي الاستعاضة عن قبعة بوش بعمامة خامنئي.

مصادر
القدس العربي (المملكة المتحدة)