ولكأن هناك فعلاً من يريد للبنان ان يقطع صلاته بالأسرة الدولية وبمنظماتها، وان يغلق ابوابه في وجه العالم ويتحوّل جرماً ضائعاً في حلكة الرومانسيات المنهارة والشعارات الزائفة والمتصارعة في هذه المنطقة.

ليست الوطنية موقفاً ضد العروبة، وليست العروبة ايديولوجيا ضد العالم والاسرة الدولية، وليست العلاقات الوثيقة بين لبنان والقوى الفاعلة في العالم غربية او شرقية، مغامرة قد توقع هذا البلد في المطبات وفي الاسترهان او في قبضة الهيمنة، كما يحاول البعض دائماً ان يقول ولو في اطار من التهويل ولاغراض سياسية ضيقة بعيداً تماماً عن مقتضيات المصلحة الوطنية.

منذ قال بشار الاسد في مؤتمره الصحافي الذي اعلن فيه قرار الانسحاب "ان لبنان سينتقل من وصاية الى وصاية" [وقد شكل هذا القول اساءة جسيمة الى اللبنانيين من دون استثناء]، منذ ذلك الحين برزت في مواقف البعض تلقائية لا تتوانى في سوق الاتهامات ونسج الشكوك حول كل اهتمام غربي بلبنان او كل اتجاه لبناني لاستجلاب الاهتمام الدولي حتى في اطار الشرعية الدولية والامم المتحدة.

العنوان الاساسي الذي يرفعه اصحاب الاتهامات التلقائية عادة هو "التسييس". بمعنى ان كل قضية لبنانية لها بعد دولي وكل موقف دولي له صلة بلبنان، انما هو مجرد فاتورة سياسية يتعين على لبنان ان يدفعها. والانكى من كل ذلك انها فواتير على حساب سيادة لبنان ووحدته وعروبته كما يقول هذا البعض!

في هذا السياق، يجب ان نتذكر كل ما قيل عن لجنة التحقيق الدولية في جريمة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري والنائب باسم فليحان ورفاقهما. يجب الا ننسى مثلاً ان الدولة والقوى المهيمنة على الاوضاع لم تقبل بداية الاستعانة بخبراء سويسريين في التحقيق في الجريمة التي استهدفت قتل لبنان، الا بعدما انفجر الوضع الشعبي على شكل ثورة وضجّ العالم بدوي الاستنكار.

حتى بعدما وضع بيتر فيتزجيرالد تقريره المدوّي بشأن التقصير والاهمال ومحاولة طمس الادلة والتلاعب بمسرح الجريمة، حيث كانت الدولة غارقة في الارتباك حتى اذنيها، لم يتوان البعض عن رفع عقيرته محذّراً من اغراض سياسية غربية اميركية قد تنفّذ من خلال التحقيق، ولكأن المطلوب ان يبقى الوضع على ذمّة الضياع:

دولة واقعة في التقصير، وقد تبيّن الآن ان قادة اجهزتها الامنية في اشتباه قوي يبقيهم قيد التوقيف، وعالم خارجي غير آبه بحيث تطوى صفحة الجريمة المتوحشة ويعود كل شيء الى مساره الكارثي الذي كان سائداً.

ليس هناك من داع بالتأكيد الى التذكير بكل ما قيل ويقال وسيقال طبعاً، في ديتليف ميليس وفريق التحقيق الدولي الذي يقوده، حيث بلغت الامور بالبعض حد المضي في منطق الغوغائيات الكارثية التي اوصلت المنطقة العربية الى ما هي عليه من انهيار وتفكك، ولم يتوان عن اتهام ميليس بخلفيات اسرائيلية او بغرضيات اميركية تتصل بأهداف واشنطن الاقليمية اكثر من اتصالها بمجريات التحقيق، رغم ان هناك محققين من 14 دولة يشاركون فيه وبينهم عرب اقحاح!

واذا كان الحديث عن مخاوف متعمدة او مفتعلة من تسييس التحقيق، لم يعد ينطلي على احد فإن ذهنية "التلقائية الاتهامية" لم توفر حتى انعقاد المؤتمر الدولي لمساعدة لبنان الذي التأم على هامش اجتماعات الامم المتحدة في نيويورك.

ان المثير تماماً لا بل المستغرب جداً ان ترتفع في بيروت اصوات مسؤولة على المستويين الرسمي والسياسي، محاولة القاء الشكوك وطرح التساؤلات المتعمدة في سياق سعي مكشوف تماماً للقول ان هناك فواتير ودفاتر شروط سياسية لهذا المؤتمر، سيدفعها لبنان او ستكون شرطاً عليه لكي يحصل على الدعم!

ولا ندري اذا كان اللبنانيون مجموعة من المراهقين السياسيين او من القاصرين، بحيث ينجرون الى دفع هذه الفواتير السياسية من حيث لا يعلمون!

ثم كيف يمكن الحديث عن هذه الفواتير وعن "سلة شروط اميركية"، اذا كان اي قرار مفترض او حتى واهم بهذا الشأن سيمر وفق الاصول الدستورية ويعلم به اللبنانيون؟!

ان التشكيك الذي يرتفع غباره في بيروت الآن حول المؤتمر الدولي لدعم لبنان، يذكّرنا [ولم ينس احد بعد] بحملة التجني والتجريح ثم بسياسة الافشال المتعمّد التي مارسها عهد اميل لحود ضد النتائج الباهرة التي حققها مؤتمر باريس – 2، لا لشيء الا لأنه كان من اهم الانجازات التي حققها الحريري للبنان، فلقد كان معروفاً وواضحاً تماماً ان المطلوب هو افشال المؤتمر او اي شيء مفيد للبنان لمجرد ان للحريري يداً فيه.

الآن ثمة ما يدعو الى السؤال: هل المطلوب رفض اي دعم او اي مساعدة للبنان تأتي من مؤتمر دولي لمجرد ان لأميركا يداً في الامر؟

واذا كانت الحسابات والسياسات الايرانية والسورية مثلاً تفرض على طهران ودمشق التعامل هكذا مع اميركا والفعاليات الدولية، فما هي مصلحة لبنان في هذا؟

واذا كنا نملك من الوعي والحنكة ما يساعدنا على ان نفيد من المؤتمرات الدولية الداعمة دون ان ندفع ما يقال من فواتير سياسية، فلماذا لا نفعل؟

ام ان المطلوب ان يكون لبنان دائماً ورقة في دفتر حسابات الآخرين اقليمياً، او بحصة مسكينة نحاول استعمالها لنسند بها خابية مصالح دول اخرى في هذه المنطقة البائسة؟

ولو كانت كوندوليزا رايس دعت فرضاً، الى مؤتمر يحضره كوفي انان وبنتيا فيريرو فالدنر ووزراء خارجية فرنسا وروسيا وبريطانيا وايطاليا والسعودية ومصر وخافيير سولانا ورئيس البنك الدولي، ويخصص لدعم ايران او سوريا، هل كان هناك في هذا الوطن التاعس من يتحدث عن "سلة شروط اميركية"؟

مجرد سؤال، ليس دفاعاً عن اميركا، ولكن استمطاراً لحد ادنى من "المنطق" كي لا نقول اكثر. وسلوا محمد احمدي نجاد، او بشار الاسد!

مصادر
النهار (لبنان)