لم يكن الشرط السياسي المجتمعي، والاقتصادي في سورية ناضجاً او ناجزاً لتقديم مشروع بديل «على افتراض انه متوافر» عندما جاء الرئيس بشار الأسد في تموز (يوليو) 2000 ليتسلم زمام السلطة بعد وفاة والده الرئيس حافظ الأسد في 10 حزيران (يونيو) من العام نفسه ليواجه استحقاقات مجتمعية وأزمات سياسية تثقل كاهل ديناصورات السياسة العالمية، في منطقة مليئة بالمطبات, وتشكل باستراتيجيتها ومقدراتها العملاقة، محور السياسة العالمية، وهي التي تقرر الى حد كبير القطب الذي تعود له سيادة العالم، من خلال سيطرته على الصحراء الشاسعة التي أنتجت التاريخ البشري، والأديان التوحيدية، وهي نفسها التي تنتج الذهب الأسود محرك الطاقة العالمية.

وساهمت الأزمات الإقليمية الحادة التي عصفت بالشرق الأوسط في القرن الحادي والعشرين، «سقوط بغداد نيسان (ابريل) 2003، الاحتلال الأميركي للعراق ومجاورته للحدود السورية، خروج الجيش السوري من لبنان في نيسان (ابريل) 2005، وقبل ذلك اغتيال الشخصية السياسية الأبرز في لبنان، رفيق الحريري. ساهمت هذه الأزمات مجتمعة في ردم جزء كبير من الهوة التي كان النظام السوري يعانيها وتهدد استقراره وبناءه الداخلي، فمع مجيء الرئيس بشار الأسد وتقديم خطاب القسم يحمل مشروعاً رأى فيه الكثيرون نقلة نوعية في الخطاب البعثي المتخشب، وكان النظام في سورية على وشك تقديم بعض التنازلات اندرجت بغالبيتها تحت سياسة غض النظر عن الحراك السياسي المعارض، مع مساحة مقبولة في حرية الرأي للتجمعات والمنتديات ولتأسيس منظمات مدنية غير مرخصة، وإطلاق العنان للرأي الآخر في التعبير عن مكنوناته وذلك خلال حقبة زمنية امتدت من عام 2001 وحتى عام 2003، لحظة سقوط بغداد واحتلال العراق عسكرياً حين وصلت اميركا بتهديداتها الى جملة من المطالب قدمها وزير الخارجية كولن باول الى دمشق بعيد سقوط بغداد بأسبوعين فقط، وهنا كانت من المفارقات الكبرى في اداء عمل النظام السوري، حين استدار الى الشارع لتقديم المزيد من الرهاب السياسي وقمع الحريات تحت ذريعة الخطر الأميركي الذي لا يحتمل توسيع مساحة الرأي على صعيد الداخل، والمفارقة الأكبر كانت في اداء المعارضة ذاتها حين لبّت النداء بنفس راضية، بل وصلت ابعد من ذلك، في تقديم ذاتها، وإمكاناتها البشرية والسياسية، للوقوف في وجه هذه الأزمة التي توشك ان تعصف بالبلاد وشعبها وتاريخها، ليكتشف النظام بأن هذه المعارضة الوطنية بامتياز ليست اكثر من قوات صديقة في خندق خلفي له ولمعركته المزعومة.

دفعت تلك الأزمة السوريين في الشارع الى تأجيل كل الاستحقاقات المطروحة حتى اشعار آخر، وهذا بالضبط ما قرأته السلطة في سورية قراءة جيدة واستثمرته استثماراً كبيراً ليمنحها المزيد من المشروعية في ادارة الدفة المعقدة الإحداثيات، والتي لا يمتلك غيرها الخبرة في توليها «بحسب ادعائها»، فحضرت لإنتاج هيكلية، تزاوج البعث القديم في راديكاليته، وتقطع مع الاستحقاقات المجتمعية الحداثوية على صعيد الداخل، وتثبت دعائم نظامها الشمولي الجديد بحلة غير تلك التي عرفها المواطن السوري خلال العقود المنصرمة، من دون تقديم أي تنازلات تذكر، ما خلا بعض الوعود التي بقيت اسيرة ادراج الروتين والبيروقراطية المركزية، وكانت النتيجة ان المستفيد الأول من الأزمات الإقليمية والدولية الخانقة التي تعيشها سورية هو النظام نفسه!

لم يكن الحراك «الثقافي، السياسي» المعارض، في سورية افضل حالاً من السلطة في قصور ادائه، وعجزه عن مواجهة استحقاقات، تنطح لها، بحماسة منقطعة النظير، وبشّر لها نظرياً وفكرياً، لكنه بدلاً من ان يسير قدماً متجاوزاً ازمات الماضي، وأمراضه، العقائدية الإيديولوجية، والفئوية، والفكرية، نجد انه وصل الى حال من التشرذم والتجزؤ جعلت الشارع ينفر من رموزه قبل ان تنفر منه السلطة السياسية، وقد عجز هذا الطيف السياسي المعارض، خلال الخمس سنوات التي انصرمت عن تقديم اية رؤية منهجية، وموضوعية، او دراسة تحليلية، او برامج سياسية للخروج بالبلد من حال الرتابة التي سارت عليه الى حال اشمل برؤيتها وديناميتها نحو مشروع وطني اصلاحي ناجز، ما ادى الى المزيد من الضربات التي قصمت ظهر البعير، على افتراض ان هذا الظهر هو الحامل باتجاه التغيير الديموقراطي، فتبين ان هذه المعارضة لم تصل يوماً الى مستوى البديل السياسي، ولا حتى المجتمعي لسلطة قائمة، واستطاعت ابتلاع المجتمع بكل مكوناته، وقد عجزت هذه المعارضة عن التواصل مع الشارع السوري، لتعيد انتاج ذهنية سياسية لديه قادرة على الفعل، ورد الفعل، والمشاركة في عملية التحول باتجاه نظام سياسي تعددي وديموقراطي يُخرج البلاد من ازماتها، وبالتالي استعادته الى الانخراط في الهم العام بعد تغييب قسري تجاوز الأربعين عاماً، ما ادى الى قطيعة فكرية وثقافية بين المجتمع وبين قوى الطيف السياسي المعارض الذي وجد نفسه وحيداً في مواجـهة سلطة تتهمه بالتمهيد لمشروع يبشر به من نهب متاحف بغداد وورث نفط العراق بالدم.

ترجمت السلطة السياسية في سورية هذه القطيعة بين قوى الشارع، وبنى المجتمع الأهلي السوري، وبين المعارضة السياسية التي طرحت خطاباً سياسياً عاجياً لم تستطع تبشيرات الديموقراطية الأميركية ان تترجمه للمواطن السوري الذي انحصر همه اليومي في تأمين لقمة العيش، وبعض متطلبات الرفاهية العصرية، التي يتمتع بها بعض مواطني الدول المجاورة، ما حدا بالسلطة الى تقديم اولوية الإصلاح الاقتصادي على الإصلاح السياسي، الذي اعتبرته نوعاً من الترف الاجتماعي يترفع عنه السوريون امام الاستحقاقات الاقتصادية الملحة! لذلك كان لاتحاد هذه العوامل. الضغوط الدولية، التهديد الأميركي، الانسحاب من لبنان وخسارة ورقته الاستراتيجية بالنسبة الى سورية، خصوصاً ان غالبية السوريين ينظرون الى لبنان على انه الأخ الأصغر الذي يجب ألا يخسروه ابداً، ثم ضعف المعارضة السورية على المستويين الداخلي والخارجي، والتي وصلت الى طريق مغلق، هذه العوامل مجتمعة اعطت دفعاً جديداً لنظام شمولي، لم يستطع احد ان يشكك في وطنيته حتى هذه الساعة، والذي يحمل في ايديولوجيته راية الانتماء القومي العربي الذي يجد تربة خصبة جداً في الشارع السوري تحديداً، هذا الشارع الذي آثر الوقوف الى جانب حكومته في حصارها الأميركي وإخراجها مكرهة من لبنان، على حساب جملة من المصطلحات دخلت حياته اليومية من غير معاجم تترجمها له او رسل تبشير تؤدي الغرض من الرسالة، فأضحت هذه المصطلحات موضع ادانة وريبة، وموضع شك، تارة تحت ذريعة الخوف من الفوضى، وتارة لأنهم رأوا فيها مرآة تجسد الوجه الآخر لصواريخ كروز الأميركية، ورجال المارينز، غير المحبوبين، او المرغوب بهم من كافة الشرائح السورية، بما فيها المعارضة، التي تتقن فن التصويب على رعاة البقر القادمين من وراء الأطلسي.

مصادر
الحياة (المملكة المتحدة)