في الوقت الذي يتعمق فيه المأزق السوري، نتيجة إعلان تقرير ميليس عن احتمال تورط شخصيات أمنية وسياسية سورية في جريمة اغتيال رئيس وزراء لبنان الأسبق رفيق الحريري ومطالبة المجتمع الدولي الحكومة السورية بتسهيل التحقيق معهم، تتسارع التطورات وتتعاظم المخاطر بسبب ما وصلت إليه القضية السورية التي تستفحل كل يوم منذرة بأسوأ النتائج وأفدح الأخطار.

ولأننا نطمح لأن نكون جزءا من وعي عربي يؤصّل لثقافة سياسية تعتبر التحرر من الأنظمة الشمولية أحد أهم المداخل للاستقلال الوطني والقومي، فقد آلينا على أنفسنا أن نحافظ – دائما – على موقف يميّز بين معاناة شعبنا ووطننا من وطأة النظام الشمولي ومعاناته من الآثار المحتملة لفرض عقوبات اقتصادية على سورية، من دون أن نتمسك بهذا النظام، الذي هو معضلة سورية سابقة على قرار مجلس الأمن 1559 أو تقرير ميليس. فالمحنة السورية ليست فقط في احتمالات فرض العقوبات والحصار على سورية وإنما في استمرار " الشرعية الثورية " وغياب الشرعية الدستورية، وما رافق ذلك من قمع داخلي ومصادرة للحريات الديمقراطية وتهوّر في رسم السياسات الإقليمية والدولية.

وكي لا نبكي على الأطلال بعد أن تقع الواقعة، فقد تابعنا كل المبادرات والخيارات التي طرحتها المعارضة الوطنية السورية والعديد من المثقفين السوريين، وكذلك بعض الأطراف الإقليمية والدولية، التي تدعو إلى " الحيلولة دون وضع البلاد في مواجهة الشرعية الدولية.. كي لا تقع بلادنا أسيرة العزلة، وتتعرض للأخطار، وتصبح فريسة سهلة للعدوان " بما يعنيه ذلك من " تقديم المشتبه بهم للمحاكمة، ومحاسبة من تثبت إدانته فيها من المتورطين، مهما كانت مناصبهم وأدوارهم، وعدم التستر عليهم لأي سبب " كما وعد الرئيس بشار الأسد في مقابلته مع C N N، وإعادة بناء الدولة السورية الحديثة على أسس ديمقراطية مختلفة جذريا عن الأسس الراهنة.

لقد جرى الحديث، منذ بضعة سنوات، عن عدة اقتراحات محددة موجهة إلى الزعامة السورية تدعوها إلى تفهّم وإدراك خطورة التحولات التي تشهدها الساحة الدولية بعد أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001 و" الحرب على الإرهاب " التي توافق عليها المجتمع الدولي، وتنصحها بضرورة إحداث تغييرات جوهرية وجذرية في سياساتها وتوجهاتها الداخلية والخارجية، بما يؤدي إلى انفتاح سياسي أكبر في الداخل وإلى إصلاح في النظام وإلى تعاون كامل وجدي مع المجتمع الدولي، تمهيدا لفتح صفحة جديدة في علاقات سورية مع القضايا العربية، بما فيها رفع الوصاية عن لبنان والقضية الفلسطينية.

فمع وصول إدارة الرئيس بوش في أوائل العام‏ 2001‏ ورحيل الرئيس حافظ الأسد في يونيو/حزيران‏‏ في العام 2000 واندلاع الحرب الأمريكية ضد الإرهاب بعد جريمة ‏11‏ سبتمبر/أيلول ‏2001‏ وأخيرا الاحتلال الأمريكي للعراق في أبريل/نيسان ‏2003‏ دخلت سورية، دورا ومكانة، في دائرة الاستهداف الأمريكية‏.‏ وقد بدأت أولى خطوات استهداف سورية - عمليا - بإصدار الكونغرس الأمريكي قانون محاسبة سورية وسيادة لبنان في نوفمبر/تشرين الثاني ‏2003.‏ ورغم أنّ العراق كان الدافع وراء إصدار هذا القانون علي خلفية الاتهامات الأمريكية لسورية بدعم المقاومة العراقية وإيواء بعض عناصر النظام السابق‏‏ وتهريب النفط العراقي، إلا أنّ لبنان كان هو السبب الرئيسي وراء المصادقة على هذا القرار.‏ وهو ما أكدته السياسة الأمريكية لاحقا من خلال إصدار قرار مجلس الأمن رقم‏ 1559‏ في سبتمبر/أيلول‏2004‏ الذي يدعو إلى انسحاب جميع القوات الأجنبية وعدم التدخل في الشؤون الداخلية وحماية سيادة لبنان وتفكيك الميليشيات فيه‏.‏

وهكذا، يبدو أنّ القيادة السورية لم تدرك بعد أنّ قصة الشرق الأوسط السياسية في المدى المتوسط ستتلخص، طبقا لتوصيف الفيلسوف الألماني كانت لحالة السلام الدائم، في مفهومين أساسيين: أولهما، هو مفهوم السلام كحزام أمن للوضع الإقليمي بين الدول. وثانيهما، هو التحول المؤسسي القائم على مجموعة قيم عالمية مثل الديمقراطية وحقوق الإنسان والشفافية والحكم الصالح. وإذا كان المفهوم الأول سيحكم علاقات الدول بعضها ببعض، وخصوصا حالة العرب وإسرائيل، فإنّ المفهوم الثاني يركز على علاقات الدول بمجتمعاتها حيث تدفع التيارات العالمية الحكومات إلى الانتقال من شخصنة السياسة، أي ربط مصير الأمة بشخص ما، إلى مأسستها، وربط مصير الدول والمجتمعات وعلاقتها بمدى حيوية المؤسسات وتكيّفها للتعاطي مع المؤسسات العالمية المماثلة.

ولما كان الخطاب السياسي خطابا في الممكنات، أي في جدلية الواقع والممكنات، فإنّ مفهوم الأولوية في مرحلة تاريخية معينة يغدو ذا أهمية بالغة. فإذا أضفنا عمق التحوّلات في العلاقات الدولية، والتغيّرات الجيو - سياسية في العراق ولبنان وفلسطين، فإنّ الوضعية لم تعد تحتمل تأجيل إعادة بناء الدولة الوطنية السورية الحديثة، تحت أي شعار، إذا ما أريد لتيار التغيير الديمقراطي أن يأخذ مداه.

إن التوصيف السابق يقتضي الشروع في مصالحة وطنية طال انتظارها وكثرت المطالبات بها، وآخرها " إعلان دمشق للتغيير الوطني الديمقراطي "، وإصلاح النظام بجدية وعمق، وإعادة تحديد المشكلات التي يجب أن تعالجها سورية بجهود أبنائها، في الموالاة والمعارضة، والذين لن يتمكنوا من مواجهة الخطر بغير تحول نظامهم من نظام أمني إلى نظام سياسي، يعترف بحقهم في الحرية، وبحق أحزابهم ومنظمات مجتمعهم المدني في الشرعية والعلنية، ويقوم على نمط من الإدارة والتنظيم يستند على مشاركة المواطن في الشأن العام، دون قيود تبطل حريته أو تتعارض معها، ويسمح بمراجعة سياساته الداخلية والخارجية، وبتحويل الدولة من دولة حزب إلى دولة حق وقانون تخص كل واحد من مواطنيها.

إنّ سورية تواجه فرصة تاريخية تمكّن من إجراء التغيير الديمقراطي المنشود، بالاعتماد على تضافر جهود جميع النخب الفكرية والسياسية دون استثناء، فلا يجوز تفويت هذه الفرصة، بل الحرص على الانتقال الديمقراطي الهادئ والممأسس، الذي يفتح الآفاق أمام إعادة صياغة مستقبلها على أسس جديدة.

نحن أمام تحديات حقيقية تستوجب تفعيل الخيارات الممكنة، من خلال إرادة سياسية ناضجة، وإدارة عقلانية لكل إمكانياتنا المتوفرة، بهدف التعامل مع الوقائع القائمة كما هي لا كما تتخيلها رؤى أيديولوجية مبسطة. فليس من الواقعية والعقلانية أن نغمض أعيننا عن مختلف الخيارات والقدرات التي يمتلكها شعبنا، وذلك من خلال إعادة صياغة كل أسس قوتنا، بترتيب أوضاعنا الوطنية، وإعادة ترتيب العلاقات مع دول الإقليم والعالم والموازين الدولية.

وفي وقت تحتاج فيه الأمة إلى الحكمة والتعقل في التعاطي مع ظروف الخطر الذي تتعرض له حاليا، فإنّ المبادرة العاقلة لا ترمي فقط إلى إنقاذ سورية ووحدتها - دولة وشعبا - بل ترمي إلى إنقاذ المنطقة العربية بأسرها ومنع وقوع سورية تحت الوصاية الدولية، علاوة على إنقاذ الكرامة العربية بتجنب رؤية حاكم عسكري أمريكي لسورية، ثم أنها تضمن إجراء تغيّرات داخلية هادئة ومتدرجة تحول دون حدوث انفلات أمني وتقاتل عشوائي بين مكوّنات المجتمع السوري.

وفي هذا السياق، من حقنا أن نتساءل عن ما هو الأفضل والأقل خسارة: بقاء الوضع على حاله في سورية، أم انتظار المخاطر المحتملة، أم تبنّي الحكمة والتعقل في التعاطي مع الوضـع ؟
من المؤكد أنّ أية مبادرة حكيمة سوف تنطوي على أنّ الشعوب أهم من الحكام، وأنّ الحاكم يزول بينما الشعب يبقى، وأنّ مهمة الزعيم الحقيقي هي حماية شعبه وتوفير الأمن والاطمئنان له، وليس لشخصه وأولاده وعشيرته.

وهكذا نبعد شبح الحصار والعدوان ونقطع الطريق على إسرائيل التي تقف حكومتها، الأكثر يمينية، بالمرصاد لتستفيد من أية هزة إقليمية لتمرر مشروعها الهادف إلى تفتيت المنطقة إلى دويلات أقلوية وتهجير أكبر عدد ممكن من الفلسطينيين وإحباط إمكانية قيام دولة فلسطينية مستقلة وإلغاء أية إمكانية لمشروع حل عادل وشامل لقضية الصراع العربي – الإسرائيلي، بما فيه الاحتلال الإسرائيلي للجولان السوري.

وبالرغم من تصورنا لصعوبة قرار دراماتيكي يصدر عن الرئيس السوري يناقض فيه سياسات مورست منذ خمس وثلاثين عاما، يتمكن من خلاله مواجهة الحقيقة تعبيرا عن صحوة وفاء للشعب السوري ودماء شبابه، فإنه يحدونا الأمل بأنه سيتخذ القرار الذي يحفظ سلامة أراضي سورية ويجنّب المنطقة ويلات المخاطر المحدقة بها، إذ يُفترض معرفته بأنّ السلطة ليست هدفا في حد ذاتها، بل وسيلة لغاية تتمثل في خدمة الشعب وإسعاده والعمل لمصلحته وأمنه واستقراره.
ولا شك في أنّ سورية القوية داخليا، بديموقراطيتها واقتصادها واستقرارها السياسي والاجتماعي، وبنخبها الفكرية والسياسية والاقتصادية، والمتصالحة مع حقائق العصر، يمكن أن تقدم نموذجا وأن تكون أكثر نفوذا في مجالها الإقليمي، وأكثر قدرة على مواجهة التحديات والإملاءات الخارجية.

مصادر
إيلاف (المملكة المتحدة)