واجه الخطاب الإعلامي السوري تحديا ًغير مسبوق في تعامله مع تقرير اللجنة الدولية للتحقيق باغتيال رفيق الحريري وهو ما سمي اصطلاحاً بتقرير ميليس، فقد وجد الإعلام السوري نفسه أمام تقرير لجنة دولية حول قضية بالغة الأهمية يتهم مباشرة أو مداورة شخصيات أمنية وسياسية سورية تحتل مناصب حساسة وعليا في المؤسسة الأمنية وفي الحكومة السورية، مترافقاً مع مناخ إعلامي عربي وعالمي ينطلق معظمه من اعتبار التقرير تقريراً ظنياً وتقرير اتهام وقد تناوله بعض هذا الإعلام وكأنه قرار نهائي صادر عن محكمة دولية فضلاً عن ترافق تقديم التقرير لمجلس الأمن مع تصريحات من مسؤولين من دول عظمى لا يبتعد موقفها عن هذا المناخ.

ومع مشاريع قرارات قدمت للمجلس تنبعث منها رائحة الإدانة والعقوبات المسبقة، بل وتحاول نقل القضية لتضعها في إطار البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة، الذي يتيح لمجلس الأمن فرض أقصى العقوبات ويعطيه السلطة بتنفيذها بنفسه بما في ذلك استخدام القوة، كما كان الحال تجاه كوريا الشمالية في مطلع الخمسينات وتجاه العراق في مطلع التسعينات من القرن الماضي.

وكان مطلوباً من الإعلام السوري أن يتصدى لمثل هذه المخاطر الكبيرة التي أظهرت ضعفه البنيوي وارتباك خطابه وربما فقدانه المؤشرات السياسية الكافية التي تتيح له التصدي لمسألة فائقة الصعوبة وشديدة الخطورة طرحها تقرير اللجنة الدولية.

لم يخرج الخطاب الإعلامي السوري في معالجته للمهمات المطروحة عليه عن الخطاب السياسي السوري التقليدي ولهذا لم يستطع استغلال الهامش الذي تتمتع به وسائل الإعلام عادة في إطار تنفيذ مهماتها، وجعل من نفسه أسيراً للخطاب السياسي كلياً، مما حوله إلى ما يشبه إعلام النشرات والبيانات التي تصدر عن الجهات الرسمية ووزارة الخارجية والناطقين الرسميين.

فخسر بذلك إمكانية التعامل مع التقرير بحرية وجدية أكبر وبروح من احترام الحوار الأكثر فعالية، فافتقد أدواته القابلة للاستخدام التي من المفروض أن تختلف عن أدوات الخطاب السياسي ووقع أسير خطوط حمر وضعها بنفسه أو وضعت له دون ضرورة لوجودها إعلامياً، ووظف طاقته وركز جهده على شرح الخطاب السياسي، ففقد شيئاً من قدرة إقناع الرأي العام وشيئاً من المصداقية، وتحمل عبء الحذر والشكوك التقليدية تجاه الخطاب السياسي الرسمي الموجودة في كل مكان.

خصص الخطاب الإعلامي السوري جهده الأساسي كله أو جله لينتقد تقرير ميليس وغرق في التفاصيل وتفصيل التفصيل، مع أن التقرير ليس تقريرا ًظنياً ولا تقرير اتهام وإنما تقرير إجرائي سيتبعه بعد شهر ونصف تقرير نهائي أو شبه نهائي، ولا يملك الإعلام السوري المعلومات الكافية عن خلفيات هذا التقرير التي تضم ستين ألف وثيقة وأربعة آلاف صفحة واستجوابات لأربعمئة شاهد، واكتفى بمناقشة الخمسين صفحة التي قدمها ميليس لمجلس الأمن وكأنها كل شيء، وهذا ما سيعرّضه مستقبلاً عند نشر التقرير النهائي لتحمل وزر أخطاء محتملة قد تسقط بيده أو تضطره للتناقض مع مواقفه الحالية.

وكان من الأجدى أن يركز على حقيقة أن التقرير مبدئي لا يلم بكل الحقائق وليس له الحق باتهام أحد فذلك من مهمات التحقيق القضائي اللاحق لبنانياً كان أم دولياً، ويشكك بالتالي بحق التقرير بالاتهام لأن ذلك ليس من حقه، ويؤكد أن التهم جميعها المباشرة وغير المباشرة تبقى احتمالات لا يبت أحد بصحتها أو عدم صحتها سوى المحكمة التي ستحال لها تحقيقات لا يشكل تقرير ميليس سوى جزء منها. ولم يكن مضطراً لاستنزاف جهوده وقدراته وإمكانياته في مناقشة تفاصيل التقرير بإسهاب وكأنه محامي دفاع في محكمة مختصة، كما لم يكن مضطراً للتشكيك بمهنية لجنة التحقيق وآليات عملها كحيثيات قضائية وكان يكفيه الإشارة إلى الخلل البنيوي وتهافت الاستنتاجات المسبقة.

لم يكن من الحكمة تركيز الخطاب الإعلامي السوري على تسييس التحقيق وإنما على خطورة تسييس نتائجه من قبل الولايات المتحدة ودول أخرى، وبذل الجهد لإقناع الرأي العام أن تقريراً تمهيدياً لتحقيق قضائي لا يحتمل بناء مواقف سياسية دولية عليه، كما ترغب الولايات المتحدة التي تريد من ذلك معاقبة سوريا بعقوبات لم تستطع أن تنفرد بها وحدها لأنها تفتقد للمبرر، وتحاول استغلال التقرير لفرض عقوبات دولية على سوريا.

وبالتالي إدانة الاستغلال الأميركي للتقرير وتسييسه منذ المراحل التمهيدية للتحقيق، والتشكيك بالتهم الموجهة لمسؤولين سوريين، بانتظار انتهاء التحقيق وإدانة تسييس الإعلام الأميركي وبعض الأوروبي نتائج التحقيق وشجب هذا التسييس دون أن يستطيع أحد التشكيك بمصداقية طرحه ومضمونه، ورغم أن الخطاب الإعلامي السوري أشار لاستغلال الولايات المتحدة سياسياً للتقرير إلا أن هذه الإشارة بقيت ثانوية وليست ذات أولوية.

من الأخطاء الكبيرة التي وقع بها الخطاب الإعلامي السوري الخلط بين المسؤولين السوريين الذين يريد ديتليف ميليس استجوابهم وبين النظام السياسي السوري برمته وكأنهما جهة واحدة، وتجاهل أن الأمر لا يتعدى أن الاستجواب يستهدف أفراداً سوريين مسؤولين من حق نظامهم السياسي أن يدافع عنهم ويحميهم بكل ما يملك من قوة وأدوات ووسائل لكنه لا يحمل وزرهم ومن المفروض أنهم جهة وأن النظام جهة أخرى، فإن اتهموا تكون الاتهامات بسبب ارتكابات فردية، وكان تناوله للأمر على أساس وجود توحد وتماه بين الأفراد والنظام خطأ جسيماً جعل النظام متهماً حتى بنظر إعلامه وكتابه.

وقد ابتهج الخطاب الإعلامي السوري بمظاهرات الاحتجاج الداخلية التي خرجت في شوارع دمشق وحلب وكأنها كافية لكشف تهافت التقرير وانحيازه. وفي الوقت نفسه لم يستفد من تأكيدات الرئيس الأسد بان المجرم سيعاقب (كخائن) مما يشير إلى تبرؤ النظام من أي مسؤول مرتكب. ولم يستفد من مواقف وسائل الإعلام العربية المؤيدة للموقف السوري كما لم يحاول تحشيد الرأي العام العربي لتأييد هذا الموقف وما من مبرر لمثل هذا التقصير.

لاشك أن تناول تقرير ميليس ليس بالأمر السهل فهو محاط بشبكة من التعقيدات ذات العلاقة بظروف سياسية محلية وإقليمية ودولية وهذا ما جعل مهمة الإعلام السوري في غاية الصعوبة، إلا أن ذلك رغم أهميته لا يبرر ضعف تناول الخطاب الإعلامي السوري للمسألة كما شهدناه ولمسناه.

مصادر
البيان (الإمارات العربية المتحدة)