عاد الفيلم - وليس الحلم - العربي إلى الدوران ‚ وبسرعة كبيرة هذه المرة ‚ وبشكل ما فإن كل النظارة كانوا يعرفون السيناريو ‚ وعلى معرفة بالأحداث ‚ ولم تعد هناك أية درجة من درجات الاندهاش ‚ فما جرى لسوريا ‚ وما جرى من سوريا ‚ خلال الفترة القصيرة الماضية ‚ كان معروفا ومتوقعا تماما ‚ وربما سوف يتوقف مستقبل سوريا ومستقبل النظام في دمشق على التصرف بطريقة مختلفة عن السيناريو المعروف بحيث يعجز المشاهدون والمتابعون عن التنبؤ بتصرفاتها ‚ ولا أغالي إذا قلت انه توجد أجهزة مخابرات ‚ وجماعات للتحليل الاستراتيجي ‚ تعرف جميع الأزرار السورية لكي تصدر عن سوريا تصرفات متوقعة تماما ومطلوبا منها القيام بها لأنها تجهز المسرح على الشاكلة والديكور والمؤثرات الصوتية والبصرية التي تجعل حركة الآخرين مقبولة وحتى ربما مشروعة أيضا ‚

لقد تغير النظام العالمي جذريا ولم يعد هناك رغبة في وجود أنظمة مماثلة للنظام السوري ‚ وعندما دخلت الولايات المتحدة العراق كان التوازن في المنطقة كلها قد تغير ‚ وبات صعبا القبول بأوضاع دمشق في الحديقة الخلفية تزعج بالضجيج وخبط الأبواب والتسلل عبر الأسوار ‚ وكما كانت لبنان هي المصيدة التي اصطادت بها سوريا الولايات المتحدة في الثمانينيات كانت لبنان هي المصيدة التي اصطادت بها واشنطن دمشق في عام 2005 عندما طال الوجود السوري أكثر مما ينبغي ‚ وكانت الهيمنة السورية العسكرية والسياسية بأكثر مما هو مطلوب ‚ ووفقا لهذه الهيمنة سارت الأزمة كما هو معروف من التمديد غير المقبول سياسيا للرئيس لحود ‚ وصدور القرار 1559 من مجلس الأمن الذي يدعو سوريا للخروج وحتى اغتيال رفيق الحريري وصدور القرار 1595 والذي تبعه الخروج السوري من لبنان ومعه وضع سوريا كلها موضع التحقيق من خلال لجنة ميليس التي حصل تقريرها على إجماع التأييد من قبل أعضاء المجلس بما فيهم روسيا والجزائر ‚

خلال هذا الطريق الذي تم فيه اصطياد الديك الرومي كما جاء في الأدبيات الخاصة باصطياد عبد الناصر عام 1967 لم يحدث أن تصرف النظام السوري أبدا على غير الطريقة المتوقعة ‚ وعندما أثيرت قضية الوجود السوري في لبنان كانت سوريا تثير قضية الوجود الإسرائيلي في مزارع شبعا؛ وعندما أثيرت قضية تمديد لحود كانت سوريا في حالة دفاع مستميت عن «السيادة» في لبنان التي تحتلها ‚ وعندما تم اغتيال الحريري كان الرد السوري هو أن إسرائيل هي التي قتلته ‚ وعندما جاءت لجنة التحقيق الدولية في حادث الاغتيال تساءلت سوريا فورا ولماذا لا تكون هناك لجنة تحقيق دولية في اغتيال الشيخ أحمد ياسين ‚ وعندما صدر تقرير لجنة ميليس للتحقيق كان التعليق السوري هو خروج المظاهرات الكبرى التي تحتج على تحميل سوريا المسؤولية ‚ وتساءلت لافتة من لافتات المتظاهرين لماذا لا يتم تحميل سوريا مسؤولية إعصار كاترينا ‚ وبعد التصويت على التقرير بالإجماع في مجلس الأمن صدرت عن سوريا تصريحات تطالب بعقد مؤتمر عربي للقمة‚

كل ردود الفعل هذه كانت متوقعة ‚ وجرى التنبؤ بها في أروقة جماعات وأنظمة وأجهزة كان يهمها أن تتصرف سوريا تماما على هذا النحو ‚ فهكذا يتصرف العرب عموما ‚ والراديكاليون القوميون الأيدلوجيون خاصة ‚ وربما كان الجديد في الأمر أنه في الماضي كان العرب يحصلون على بعض التعاطف من المجتمع الدولي ‚ وكانت هناك منظمات للعالم الثالث ‚ وعدم الانحياز ‚ تصدر البيانات والتصريحات ‚ وكان هناك الفيتو السوفياتي؛ ولكن الدنيا تغيرت ولم تعد هناك معدة في العالم على استعداد لهضم لا التخلف العربي ‚ ولا الجهل العربي بحقائق القوة العالمية ‚ ولا حتى تصرفات أنظمة السياسية العربية التي تدخل أفخاخا بأقدامها ودون تدبر ‚ وببساطة فإن صورة العالم عن العرب لم تعد مرضية ‚ لا من حيث كفاءة الكفاح ‚ ولا من حيث عدالة القضية ‚ ولا من حيث القدرة على الحساب في أوضاع معقدة ‚

وبالنسبة لسوريا تحديدا فإن مقالا للباحث فلينت لافيرت في مؤسسة بروكينجز الاميركية ومنشور في صحيفة الواشنطن بوست - 30 أكتوبر 2005- يقربنا من الطريقة التي يفكر فيها الغرب في الحالة السورية ‚ أو أنها على الأقل ‚ الطريقة التي يريد بها الاميركيون أن يفكر العالم في الشأن السوري ‚ فالقضية في الموضوع ليست سوريا وإنما عائلة الرئيس الأسد التي تشبه عائلة «الأب الروحي» في الفيلم الشهير ‚ وبينما كان الرئيس حافظ الأسد هو «دون كورنيولي» ‚ فإن ابنه باسل الذي توفي في حادث سيارة كان مماثلا لسانتينو كورنيولي ‚ أما بشار الرئيس الحالي فهو الذي وعد عند توليه المسؤولية أن يجعل كل أعمال الأسرة «شرعية»‚ ومع ذلك فقد فشل وعادت الأسرة إلى أعمالها المعتادة بما فيها عمليات الاغتيال الذي أخذت الحريري في طريقها ‚ من هنا فإن هذه المشابهة الظالمة تقطع بأن الأسرة سوف تدافع عن أعضائها المتهمين أو المتورطين في الواقعة ‚ وسوف يبدو كل دفاع كما لو كان تغطية على الجريمة وليس اعتقادا بأن الشخص بريء حتى تثبت إدانته ‚

ولكن ذلك تحديدا هو ما يعطي سوريا الفرصة لكي تخرج من المأزق الحالي الذي يقودها خطوة بعد خطوة إلى الهوة التي تسير لها بأعين معصوبة ‚ وأياد مقيدة ‚ ولا يحدث ذلك إلا إذا تصرفت بطريقة لا يمكن التنبؤ بها من قبل الغرب والولايات المتحدة ‚ فإذا تصرف النظام وكأنه نظام مدني لا يخفي ‚ والأهم أنه يريد الكشف عن الحقيقة ‚ فإن أول خطوات الإنقاذ سوف تكون على الطريق ‚ وإذا لم تحشر سوريا إسرائيل حشرا في كل قضية ‚ فتكون الجرائم مشروعة مادامت إسرائيل ترتكبها ‚ فإن سوريا سوف تجد عددا أكبر من الأصدقاء وعددا أقل من الأعداء ‚ وإذا جعلت سوريا من العراق جسرا وفرصة لدعم العلاقات السورية الأميركية بدلا من أن تكون فخا لاصطياد اميركا فإن دمشق تكون قد بدأت طريق الاقتراب من تفاهم مع الجارة الأميركية ‚ وإذا ما تغيرت لهجة ولغة سوريا في أجهزتها الدعائية وتصريحاتها السياسية فإن العالم سوف يلاحظ ذلك ويضعه في اعتباره عند تسوية الأزمة ‚

وبالتأكيد فإن كل ذلك ليس سهلا ‚ فما تعودت عليه سوريا من مظاهرات وهجمات دعائية للاستهلاك المحلي ليس من السهل التخلص منها ‚ وما جرى عليه العرف من تضامن عائلي يجعل من عملية تسليم أو التنازل عن شخصيات هامة للجنة التحقيق الدولية نوعا من الزلزال الذي قد يؤدي إلى شروخ دامية ‚ والآلة الحزبية الضخمة التي قامت طوال سنوات وتضخمت على النظر إلى كل القضايا من خلال زاوية الصراع العربي - الإسرائيلي من الصعب نسيانها بين يوم وليلة ‚ والعلاقات السورية اللبنانية التي قامت على توازنات بعينها كلها لصالح سوريا يصعب تصحيحها من خلال تخلص سوريا من الرفيق اللبناني ‚

وبعد ذلك كله ما الذي يبقى من سوريا إذا فقدت مكانتها كآخر الشجعان العرب من أيام الحركة القومية ‚ وما الذي يجعلها قبلة ‚ ويجعلها منارة ‚ ومقصدا ‚ ولكن هذه الأسئلة طرحت من قبل على أنظمة عربية متعددة ‚ وكان لديها طريق السلامة الذي يخرجها من المأزق ‚ وكان لديها طريق الندامة الذي يدخلها إليه ‚ وكان لديها الطريق الذي لا يعود منه أحد؟ ‚