ليس من المبالغة القول إن سوريا تسير على صراط عسير محفوف بالمخاطر، لأن هذا الصراط أشبه ما يكون بصراط الدار الآخرة الذي قال عنه بعض الفقهاء إنه أرق من شعرة وأمضى من سيف. وكل يوم يمضي يزداد الخناق الدولي المضروب على سوريا إحكاما وقسوة. وتتزعّم الولايات المتحدة الأمريكية (ومن ورائها في الخفاء المكشوف “إسرائيل”) حركة ضرب الخناق والعزلة عليها، وسوريا في حيرة من أمرها لا تستطيع مقاومة للخطر الداهم ولا تملك ردا للتيار الجارف، وإنما تضطر إلى الانصياع والانقياد.

بعد كسْب الولايات المتحدة معركة دك قلعة العراق وإن لم تكسب الحرب بعد ها هو الدور جاء على سوريا لدك قلعتها وقد تتبعها غدا إيران وهكذا دواليك، حتى لا تبقى قلعة عربية أو إسلامية صامدة في وجه هيمنة “إسرائيل” على منطقة الشرق الأوسط.

بعد قرار مجلس الأمن رقم 1559 الذي تقدمت بمشروعه الولايات المتحدة إلى المجلس وأمر فيه المجلس سوريا بالانسحاب الكامل من لبنان، وبعد القرار 1595 القاضي بتأسيس لجنة دولية للتحقيق في اغتيال الحريري، وبعد تقرير “لارسن” الخطير، نجحت الولايات المتحدة وفرنسا في استصدار قرار مجلس الأمن رقم 1636 القاضي بتعاون سوريا تعاونا غير مقيد ولا مشروط مع لجنة التحقيق الدولية التي يرأسها القاضي الألماني ميليتس الذي اتهم سوريا بعدم التعامل معه، إذ يلزم هذا القرار سوريا بالتعاون اللامشروط، ويهدد في نفس الوقت بفرض العقوبات عليها إذا هي لم تتعاون كليا أو انتقصت من تعاونها، ويحيل القرار على الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة الملزم، ويلوّح باستعماله ضد سوريا في حال اتخاذ مجلس الأمن قرارا ضدها فيما يستقبل.

قبل صدور هذه القرارات أفصحت الولايات المتحدة جهرا عن أنها إذا كانت لا تنوي في الظروف الحالية غزو سوريا على غرار ما فعلته بالعراق، فإنها لا تستبعد احتمال تغيير النظام السوري إما بمبادرة منه أو على يد قوات سورية معارضة للنظام. وفي هذا الصدد قال الإعلام العالمي إن بعض عناصر المعارضة السورية استقبلوا في واشنطن للتحدث إليهم بشأن التغيير، وكان من بينهم كمال اللبْواني فما أن عاد إلى دمشق حتى ألقِي عليه القبض.

الملاحظ -للأسف الشديد- أن القيادة السورية لا تبادر تلقائيا وبسرعة إلى اتخاذ مبادرات جريئة قبل فوات الأوان لإظهار رغبتها في مراجعة سياستها سواء حيال شعبها، أو في التعامل الدولي (ولا سيما مع لبنان)، وأنها لا تسارع إلى الفعل بقدر ما يكون رد فعلها هو الإعلان عن الامتثال لما أمر به مجلس الأمن.

وعلى سبيل المثال أذكر هنا أني كنت دعوت على صفحات هذه الجريدة قبل صدورقرار مجلس الأمن القاضي بانسحابها من لبنان إلى أن تبادر سوريا إلى الانسحاب قبل أن يُفرض الانسحاب عليها، لكن الانسحاب جاء بعد قرار مجلس الأمن ما جعلها لا تجني ثمار عملية الانسحاب وتوظيفه لصالحها.

واليوم وهي تواجه القرار 1636 المهدد بفرض العقوبات عند الاقتضاء فيما يُستقبل، أنصحها محبة فيها وتعاطفا معها أن تسارع إلى اتخاذ تدابير من شأنها أن تخفف من قسوة الطوق المضروب عليها في عملية ليّ العنق التي تعاني منها. ويأتي في طليعة هذه التدابير تعاونها المطلق مع لجنة ميليتس الدولية. ولا أرى فائدة في تأسيس لجنة وطنية سورية موازية للجنة ميليتس للتحقيق في اغتيال الحريري، لأن هذه اللجنة السورية لا تعدو أن تكون حشوا زائدا. ولربما كان الأفضل لهذه اللجنة أن تعمل تحت مراقبة اللجنة الدولية لا أن تكون بجانبها مكرّرة لعملها.

آمل أن لا تكون سوريا متورطة في عملية اغتيال الحريري وأنزهها عن تلطيخ يدها في هذه الحمأة القذرة، وأن لا يكون لها بالتالي شيء تخفيه.

وعلى فرض أن يكون سوريون غير مسؤولين قد ضلعوا بوجه أو بآخر، من قريب أو بعيد في عملية الاغتيال، فإن مصلحة سوريا العليا أن تقدمهم للمحاكمة لاقترافهم جريمة الاغتيال، وللإساءة إلى وطنهم: فاغتيال الحريري تضررت منه سوريا أكثر مما تضررت منه لبنان نفسها: لبنان بهذا الاغتيال فقدت شهيدها الكبير، ولكن توشك سوريا لو ثبت ضلوعها في العملية البشعة أن تفقد نظامها وحتى وجودها.

لقد كان المنتظر من بشار الأسد الرئيس الشاب المثقف الواعي البليغ في أحاديثه والخبير بأوضاع العرب الحاضرة والمقنع في خطبه أن لا يتردد إثر تسلمه خلافة والده في المبادرة إلى التغيير الشامل للوضع السوري، وإقامة عهد جديد يقطع الصلة بالعهد السابق، ويقوم بنقلة نوعية لسوريا تجعلها تعيش القرن الحادي والعشرين. لكن مر ما يناهز خمس سنوات على خلافته، وظلت دار لقمان على حالها، وسطا على هذا الجمود المتربصون بسوريا شر الدوائر وها هم اليوم فرحون بما آل إليه النظام وهو يسير على الصراط المحفوف بالمخاطر.

لقد أعطى محمد السادس ملك المغرب أروع مثال من خلال تسارعه عند ارتقائه عرش المغرب خلفا لوالده إلى طي صفحة الماضي، واتخذ قرارات صعبة اقتحمها بشجاعة ولم يتهيب اقتحامها. وكان ينبغي للرئيس بشار الأسد أن يسير على نفس الطريق، وربما يكون عذره أن سوريا محكومة بقوات محصنة في حصون منيعة لا يمكن اقتحامها. وكان يجب على هذه القوات نفسها أن تضع يدها في يد الرئيس الجديد لتفجير طاقة التغيير والإصلاح، والوقوف معا في صف واحد لتحقيق الثورة الذاتية التاريخية.

لا أقصد من هذا أن وقت التغيير قد فات، فما يزال النظام السوري قادرا على تحقيق الثورة الذاتية بشرط أن يحرق المراحل، ويقفز على الحواجز، ويحرك بسرعة عقارب الساعة إلى الأمام.

لن ينفع النظام السوري تغيير جزئي يضيع ولا يحس به أحد في ظل نظام مرهوب، بل هو في حاجة إلى تغيير شامل في ظل نظام محبوب، يحصنه التفاف الشعب حوله من كيد الأعادي ومؤامرات الخصوم. والوصفة سهلة. فالنظم القابلة للبقاء والاستمرار في عالمنا هي نظم دولة الحق والقانون، ناصرة حقوق الإنسان، وحامية الحريات، والتي تؤمن بسيادة الشعب، وبالتعددية المجتمعية، تعدد الأحزاب والمنظمات والفعاليات على اختلاف توجهاتها في حضن مجتمع التعايش والتفاهم والتعاون، التي ينبثق فيها الحكم عن صناديق الاقتراع الحر النزيه.

تظهر في سوريا بعض الإمارات المؤشرة إلى أن هذا التغيير حاضر في أذهان القيادة السورية، فقد أعلن عن وجود مشروع قانون يضمن تعددية الأحزاب، وعن تدابير جزئية بإطلاق سراح 190 من المعتقلين السياسيين، ولكن هذه الجرعات المعدودة لا تنفع في العلاج، ولا تكفي لضمان استمرار النظام. فمشروع قانون التعددية الحزبية على ما يبدو لا يحقق التعددية الحرة بدون قيد، وإطلاق سراح 190 معتقلا سياسيا لا يكفي إذا ما صح ما قيل إن عدد المعتقلين السياسيين يتجاوز 2500.

وهذا العطاء الذي يقدمه النظام السوري قليل. وليس هو الذي ينتظره الشعب السوري. أما طريقة العطاء فقد تمحو العطاء إذا لم تكن من النوع الأحسن والأفضل. والمثل الفرنسي يقول: “إن طريقة العطاء الجيدة تكون دائما أفضل من العطاء نفسه مهما كانت جودته”.

مصادر
الخليج (الإمارات العربية المتحدة)