تشهد سوريا هذه الأيام مرحلة مفصلية في تاريخها السياسي. و إذا أردت معرفة أحوال و ظروف، مفردات و مكونات الخارطة السياسية في البلاد، فلا بد أن تصاب بالتشويش و تنتابك مشاعر الحيرة و الإرباك، بدءاً من النظام الذي يجد نفسه في مواجهة خطيرة مع المجتمع الدولي على خلفية القرار 1636، و مروراً بالمعارضة السورية، الداخلية منها و الخارجية، التي لا تملك ثقلاً و لا وزنأً، كأنها تعيش في جو منعدم الجاذبية، وصولاً الى الشارع العريض الذي يجد نفسه في موقع التجاهل في أجندة أصحاب الشأن العام.

في هذا السياق لا يشكل المشهد الكوردي في سوريا إستثناءاً. يبدو أن البنية السياسية و المنظومة الفكرية واحدة في البلاد، لا يشذ عنها أحد. كل اللاعبين في الوضع السوري داخلياً أدلو بدلوهم في خطاب الرئيس الأسد و إعلان دمشق حصد نصيباً زخماً من التقييم. إزاء هذه الحالة السريالية، يبقى السؤال الأهم ماثلاً امام الأعين : الى أين نحن سائرون ؟

المسألة الكوردية وفق ما تضمنه إعلان دمشق دخلت مرحلة أكثر تقدمأ من ذي قبل، وهي مرحلة التدويل الوطني و لكن يبقى أن نعرف : هل كانت فقرات إعلان دمشق فيما يخص الملف الكوردي منسجماً مع ما يتمناه الشارع الكوردي و جماهيره المستنفرة ؟ و هل عكست حضوراً كوردي فعال في مناقشة بنوده و فقراته، لا سيما تلك المتعلقة بقضية الكورد في سوريا ؟

برسم الإجابة على هذه الأسئلة تصدى العديد من الكتاب و المثقفين الكورد لمناقشة الإعلان. النتيجة كانت كما كان متوقعاً : التحفظ الذي عكس إتجاهان أو إصطفافان في الشارع الكوردي. فمن جهة رأى البعض ( الموقعين و من يقف خلفهم ) أن الإعلان مجرد وثيقة وطنية تثبت أن هناك« مشكلة » كوردية في سورية نتجت عن مظالم و تجاوزات إرتكبتها الأنظمة المتعاقبة على سدة الحكم بحق الكورد و هي تحتاج بالتالي الى حل وطني ديمقراطي تعيد الإعتبار للمواطن الكوردي في سوريا على قاعدة تعميم المساواة بين المواطنين السوريين على إختلاف إنتمائاتهم العرقية والدينية و المذهبية.. و ما يترتب على هذه المساواة من حقوق سياسية و ثقافية و دستورية.. للكورد في إطار وحدة سوريا أرضاً و شعباً. في حين يرى البعض الأخر( الرافضين )، من جهة أخرى، أن إعلان دمشق تبنى المسألة الكوردية ليس إنطلاقاً من تغير طال مواقف و تصورات القوى العربية من القضية برمتها و إنما جاء تحت الضغوط التي أحدثتها مخاضات الشارع الكوردي و حركته المجتمعية إثر أحداث 12 آذار و فورتها « الإنتفاضية » في المناطق الكوردية في سياق النشاط الشعبي و الجماهيري على خلفية المسيرات و الإعتصامات التي نظمتها بعض القوى الكوردية المتهمة من قبل بقية الأطراف الأخرى بالتطرف و المغالاة في طرح المسألة الكوردية. علاوة على ذلك يجد أصحاب هذا الرأي في الفقرات المتعلقة بالمسألة الكوردية في سوريا إنتقاصاً من حقيقة وجود المشكلة الكوردية في الأساس و تهرباً من تاريخانيتها و فصول المؤامرة المستديمة بحق الكورد. فالإعلان لم يؤكد على القضية الكوردية على أنها قضية، شعب و أرض، و ما يترتب على هذا التأكيد من إلتزامات من خلال الإعتراف الصريح و الواضح الذي لا يقبل اللبس و الغموض بحق الشعب الكوردي في سوريا في تقريرمصيره بنفسه و الإعتراف به، دستورياً، كثاني أكبر قومية في سوريا بعد العرب، الأمر الذي يعني ضرورة إيجاد حل سياسي للمسألة، في سياق هذه الطرح، و ليس في سياق المعادلة التي طرحتها قوى إعلان دمشق و التي تتمثل في أن الديمقراطية هي الطريق الى حل المسألة الكوردية. فبالإستناد الى التجارب الدولية القريبة العهد كما حدث في السودان فيما يتعلق بمشلة الجنوب نجد أن النظام السوداني، الغير ديمقراطي وفق المعايير القانونية و الدولية، توصل مع الجبهة الشعبية لتحرير السودان الى إبرام إتفاقية السلام في السودان على أساس منح الشعب الجنوبي حق تقرير المصير بعد ست سنوات. لهذا نقول أن الديمقراطية هي عامل ضمان لحل المسألة القومية و ليست شرطا لحلها.

و يجدر بالذكر هنا أن القوى التي صاغت الفقرة الكوردية في إعلان دمشق عمدت الى اللعب بالكلمات و المفردات في تدوين الفقرة التي جاءت غامضة و مبهمة مشرعة بذلك الطريق للعديد من الإحتمالات و التأويلات في تناول القضية الكوردية في سبيل التهرب مستقبلاً من إلتزامات معينة تقتضيها توازنات اللحظة الراهنة. ﻓ "حل القضية الكوردية في سوريا بشكل ديمقراطي" كما جاءت في بداية الصياغة، " على قاعدة تحقيق المساواة بين المواطنين الكورد مع باقي المواطنين " كانت بمثابة ذر الرماد في العيون و محاولة لطمس المعالم الأساسية للقضية الكوردية في سوريا يستدل عليها في الجملة المعطوفة على الفقرة الأساسية عندما يذكر الموقعون "..و بقية الحقوق السياسية و الدستورية و الثقافية.." في الإعلان. أي أن بقية الحقق السياسية و الدستورية و الثقافية الأخرى جاءت معطوفة على الجملة الأساسية التي تقول بإيجاد حل ديمقراطي للقضية الكوردية على قاعدة المساواة الكاملة للمواطنيين الكورد مع باقي المواطنيين الأخرين، و ليس على أساس أن القضية الكوردية قضية شعب و أرض و هذه هو وجه الإختلاف الجوهري و الخطير بين أصحاب الرأيين.

و ما يزيد الطين بلة، في الحقيقة، هو أن هناك معطيات تشير الى صفقتين لا حت في الأفق على خلفية إعلان دمشق و خاصة تلك المتعلقة بالقضية الكوردية في سوريا و تتمثل في أن القوى الكوردية الموقعة على إعلان دمشق إتفقت فيما بينها من جهة و اتفقت مع القوى العربية من جهة أخرى بِشأن إستبعاد القوى الأساسية في الساحة الكوردية في سوريا المطالبة بتبني المسألة الكوردية وفق الحقائق التاريخية و الجغرافية و بما يتفق مع طبيعة الوجود الكوردي في سوريا و عدم التفريط بأية حقوق كوردية في هذا التوقت بالذات لصالح قوى عربية غير فاعلة في المشهد السياسي السوري من أجل تسهيل الإتفاق على صياغة الفقرة الكوردية بيسر و سهولة. فما كان لهذا الإعلان، بهذ الشكل و لا سيما فيما يتعلق بالقضية الكوردية، أن يجد النور إلا عن طريق إستبعاد و إقصاء الإتجاهات الكوردية الفاعلة و المؤثرة في الشارع الكوردي. لهذ جاء إعلان دمشق، بالكوردي،ً سلبياً تماماً، لا يعكس حقيقة المسألة الكوردية تاريخياً و لا ينسجم مع طموحات الكورد في الوقت الراهن.