الرأي العام - خير الله خير الله - فقدت العملية الأخيرة لـ «حزب الله» في جنوب لبنان الحزب بقية رصيد كان يمتلكه بفضل الإنجاز الكبير الذي حققه عندما كانت إسرائيل لا تزال تحتل جزءاً من الأراضي اللبنانية, واضطرّت إسرائيل ـ وقتذاك ـ الى الانسحاب من هذه الأراضي في مايو من العام 2000 من دون قيد أو شرط، وقدمت بذلك للحزب الشيعي الصرف، الذي يعتبر «مرشد الجمهورية الاسلامية» في ايران مرجعيته العليا الأولى والأخيرة، هدية رفضت تقديمها الى أي طرف آخر في المنطقة, ربما أن إسرائيل تمتلك كمية كبيرة من طيبة القلب وربّما كنّا نحن الذين لا نملك معرفة كافية في اسرائيل أبعد ما نكون عن أدراك ذلك او اخذ العلم به!

ليس في استطاعة أحد التقليل من قيمة التضحيات التي قدّمها شباب أعطوا أغلى ما عندهم واستشهدوا من أجل انتصار قضية التحرير، ذلك أن المرء لا يستطيع الاّ الوقوف بأحترام وخشوع أمام من هو على استعداد لمواجهة المحتل الإسرائيلي عندما يتعلّق الأمر باستعادة الأرض, الاّ ان ذلك لا يمكن أن يحول دون تسمية الأشياء بأسمائها في انتظار اليوم الذي سيتبين فيه ما هي الحسابات الإسرائيلية التي أدت الى الانسحاب من جنوب لبنان في تاريخ معين استناداً الى وعد واضح أعطاه إيهود باراك الى الإسرائيليين في البرنامج الذي انتخب على أساسه رئيساً للوزراء.

بالطبع، لا يمكن تجاهل أن التضحيات التي قدّمتها المقاومة أثّرت في الرأي العام الإسرائيلي تأثيراً كبيراً، لكن ذلك لا يمنع التساؤل: هل لهذه الحسابات علاقة بالتفرغ للموضوع الفلسطيني وهو الوحيد الذي يهم اسرائيل حقيقة، وهو موضوع مرتبط أساساً بمستقبل القدس والضفة الغربية؟ وهل للإنسحاب علاقة بانعقاد قمة كامب ديفيد التي جمعت بين الرئيس كلينتون وباراك وياسر عرفات والاعداد لها؟,,, وقد تبين مع مرور الوقت أن القمّة كانت فخّاً نصب للزعيم الفلسطيني الراحل الذي فقد بوصلته السياسية بعدها وراح يقدم على خطوات تقترب من حال التخبط أكثر من أي شيء آخر، انطلاقاً من اعتقاد خاطئ فحواه أنه يستطيع تكرار تجربة جنوب لبنان في الضفة الغربية, ربما كانت اسرائيل تريد في تلك المرحلة ايجاد مثل هذه القناعة لدى «أبو عمّار» وترسيخها كي لا يعود ذلك السياسي الهادئ البارد الأعصاب الذي يحسن التعاطي مع موازين القوى الاقليمية والدولية كما هي وليس كما يتخيّلها أو كما تصوّر له,,.
وحده مرور الأيام سيكشف الملابسات التي أحاطت بالانسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان وماذا كانت حقيقة الحسابات التي أملت على باراك الإقدام على تلك الخطوة في حينه مع ما يعنيه ذلك بالنسبة الى الاقدام على تنفيذ قرار مجلس الأمن الرقم 425 الصادر في مارس من العام 1978.

أما المهم الآن، فهو ما يدور في جنوب لبنان، وذلك الاصرار الذي يبديه «حزب الله» على توظيف الانتصار الذي حققه في العام 2000 في خدمة سياسات لا تصب في مصلحة لبنان واللبنانيين, لا أحد ينكر أن «حزب الله» حليف للنظام السوري، وذلك باعتراف كل قيادات الحزب، كذلك لا يوجد عاقل يستطيع أن ينكر أن هذا النظام وضع نفسه في حال صدام مع المجتمع الدولي منذ ما قبل اغتيال الرئيس رفيق الحريري في 14 فبراير الماضي, لقد دخل النظام السوري في مواجهة مع العالم منذ اتخذ قرارا بتمديد ولاية الرئيس أميل لحود خلافاً لارادة المجتمع الدولي الذي رد بإصدار القرار الرقم 1559 , هذا القرارالذي لم يكتف برفض تعديل الدستور اللبناني من أجل التمديد لأميل لحود، بل دعا أيضاً الى تنفيذ ما نص عليه اتفاق الطائف بالنسبة الى نزع سلاح «حزب الله» اضافة بالطبع الى الانتهاء من مسألة السلاح الفلسطيني في لبنان، الذي يشكل عبئاً على اللبنانيين والفلسطينيين في آن,

ولكن على الصعيد العملي وبعيداً عن الشعارات والخطب الرنانة، فإن ما يفعله «حزب الله» هذه الأيام عبر اعتماده التصعيد في جنوب لبنان لا يخدم النظام السوري بمقدار ما يزيد من المشاكل التي يعاني منها، لا لشيء سوى لأن العالم بات يدرك أن كل ما تسعى اليه دمشق في هذه المرحلة هو شراء الوقت, إنها تشتري الوقت في ضوء عدم قدرتها على الذهاب بعيداً في التعاون مع لجنة التحقيق الدولية في اغتيال رفيق الحريري لأسباب داخلية أوّلا ذات علاقة بتركيبة النظام والضبّاط الذين تصرّ لجنة التحقيق الدولية على استجوابهم, وهذا ما يفسّر ـ الى حد كبير ـ الرفض السوري لاستجواب ستة ضباط في مقر للأمم المتحدة في فيينا والاكتفاء في الوقت الراهن باستجواب خمسة من هؤلاء، علماً بأن من لا يخاف الحقيقة لا يفرق بين خمسة أو ستة ضباط، بل يضع كل امكاناته البشرية في خدمتها, اضافة الى ذلك، أن من يريد الحقيقة لا يلجأ الى مسرحيات من نوع تلك التي قدّمها «الشاهد المقنّع» الذي ظهر في دمشق وأكّد مرة أخرى أن المسؤولين في دمشق لم يقرأوا لا التقرير الأخير لميليس ولا نص القرار 1636. انه استخفاف بعقول الناس على غرار الأستخفاف بردود الفعل على التمديد لأميل لحوّد أو اغتيال رفيق الحريري, هذا الاغتيال الذي يتحمّل النظام السوري مسؤولية عنه نظراً الى أنه كان يتحكم بكل مفاصل الأمن والسياسة في لبنان وبأدق تفاصيلها لدى حصوله.

بكلام أوضح، ان ما يجري في جنوب لبنان لعبة مكشوفة لا تنطلي على أحد تجاوزها الزمن وتخطتها الأحداث, ربما كانت الفائدة الوحيدة للعبة أنها كشفت الى أي حد يمكن أن يذهب «حزب الله»، الذي يصرّ على أن قراره ُيتّخذ في لبنان، في السعي الى الدفاع عن النظام السوري تلبية لطلب من مرجعيته الإيرانية, المؤسف في كل ذلك أن لبنان واللبنانيين هم من يدفع ثمن بقاء البلد مجرد «ساحة» للتجاذبات الاقليمية التي لا تصب في نهاية المطاف إلا في مصلحة إسرائيل التي تستخدم حجة اسمها سلاح «حزب الله» أضافة الى تصرفاته التي تشكل امتداداً للحلف السوري- الإيراني لإبقاء الأراضي اللبنانية عرضة لاعتداءات يمكن أن تشنها في اللحظة التي تختارها أو تناسبها من دون أن يبدر عن المجتمع الدولي ولو مجرد تحفّظ عن تصرفاتها.
لم تعد حاجة الى أقنعة يختبئ «حزب الله» خلفها ليقول انه يريد أيضاً معرفة الحقيقة, ذلك أن من يريد الحقيقة حقاً لا يلجأ الى التصعيد في جنوب لبنان أو في مجالات أخرى لتغطية تصرفات من يسعى الى الهرب منها,,, حتى لو كان ذلك على حساب لبنان والمواطن اللبناني وأمنه واستقراره, ان من يريد الحقيقة لا يوظف ما بقي لديه من رصيد كي لا يكون لبنان «ساحة» للآخرين ولمخططات اقليمية أقل ما يمكن أن توصف به انها مشبوهة، خصوصاً ان المستفيد منها في ختام المطاف هو إسرائيل, هل من خدمة لإسرائيل أكبر من خدمة تقديم لبنان الى العالم في صورة بلد لا تسيطر عليه حكومته المركزية بمقدار ما أنه بلد «الجزر الأمنية» ليس الاّ، بل «ساحة» لكل من يريد عبره الضغط على الطرف الاقليمي أو الدولي أو ذاك، «ساحة» تصلح لخدمة كثيرين,,,باستناء لبنان واللبنانيين في طبيعة الحال؟!
في النهاية، بدأ النظام في سورية يكتشف أن لا مفر من مواجهة لجنة التحقيق الدولية أكان ذلك في لبنان أوخارج لبنان, انه يدرك أن الحقيقة ستظهر عاجلاً أم آجلاً مهما بذلت محاولات لاخفائها بحجة السيادة وما شابه ذلك, كل ما في الأمر أن الكلام عن أن قرار «حزب الله» يُتخذ في لبنان وليس في ايران لا يمكن أن يصدقه أحد اذا لم يقترن بالأفعال, واول هذه الأفعال التصرف بطريقة تؤكد أن لبنان ليس «ساحة»، لا لشيء إلا لأن اللبنانيين ليسو أغبياء الى درجة يصدّقون فيها أن سلاح «حزب الله» في مرحلة ما بعد التحرير يخدم الاستقرار في بلدهم ولا يعيده سنوات الى خلف، أي الى مرحلة كانت فيها أرض جنوب لبنان الجبهة الوحيدة المفتوحة أمام العمل العسكري الفلسطيني, هل من يريد أن يتذكّر الويلات التي أتى بها فتح تلك الجبهة على لبنان، خصوصاً أن الجبهات العربية الأخرى بما في ذلك جبهة الجولان كانت ولا تزال موصدة باحكام في وجه أي عمل عسكري من أي نوع كان؟ لماذا تحميل لبنان أعباء ليس قادراً على حملها ولمصلحة من يحصل ذلك؟ هل لدى «حزب الله» وغير «حزب الله» أجوبة عن هذا النوع من الأسئلة؟