برهان غليون

نشرت جريدة الثورة (5/12/ 2005)، مقالا لي بعنوان "شيء من السياسة في ضوء اعتزال ميليس" نقله موقع شام برس من دون تردد أو تساؤل عما إذا كان المقال لي أم لا، في الوقت الذي لم يعتد القاريء على قراءة مقالات لي في الثورة وفي الصحف السورية، وفي الوقت الذي عودنا فيه موقع شام برس على أن لا ينشر أيضا من المقالات التي أنشرها في الصحافة العربية إلا تلك التي لا تتعارض كثيرا مع سياسات لنظام السوري ومع موقف الموقع من الوضع القائم في دمشق.

وبصرف النظر عما جاء في المقال، وهو مثال للبذاءة والإسفاف السياسي والأخلاقي، لم يفاجئني الأمر. فالأشخاص الذين لا يتورعون عن تزوير إرادة المجتمع بأكمله وهم مستعدين في كل لحظة للدوس عليه، لن يترددوا في تزوير إرادة كاتب مستقل، ولا في تحرير المقالات الرخيصة باسمه. ومن النافل القول أن التزوير لا يتعلق هنا بفقرة أو فكرة ولكنه يشمل المقال كله الذي لم أكتبه ولا إدري من هو كاتبه ولا علاقة لي به لا من قريب ولا من بعيد.

وقد ذكرني نشر هذا المقال بحادثة جرت لي أثناء الحصار الدولي الذي فرض على شعب العراق في التسعينات. فقد دعيت لأحد الندوات العالمية التي نظمت في بغداد في ذلك الوقت للدفاع عن الشعب العراقي وإدانة عملية الحصار. وكان لدي رغبة قوية في الذهاب إلى بغداد ومعاينة الأوضاع عن قرب والتواصل مع أفراد الشعب والمثقفين العراقيين. بيد أنني كنت خائفا من أن تستغل زيارتي من قبل السلطة البعثية هناك، وأن أدعى إلى لقاء في التلفزة أو في الصحافة. فبقيت مترددا لبعض الوقت حتى التقيت أحد الأصدقاء المغاربة الذين زاروا بغداد في تلك الفترة. فسألني عن الموضوع، فقلت إنني متردد لكنني ميال إلى الذهاب. فقال ماذا تفعل إذا أتوك بآلات تصويرهم إلى الفندق؟ قلت لن أتردد في نقد النظام العراقي المسؤول في نظري عن الكارثة التي حلت بالعراق، مع معرفتي أنهم لن يبثوا ما سأقول. قال تستطيع أن تقول ما تشاء في التلفزيون، لكن ماذا تستطيع أن تفعل إذا نشروا باسمك في الصحافة مقابلة وضعوا على لسانك فيها كل المدائح التي اعتادوا على وضعها لصدام وسياسة صدام؟ قلت هل هذا يحصل بالفعل؟ قال بالتأكيد، وما الذي يمنعهم من ذلك؟ وكيف يمكنك أن تكذب مثل هذا اللقاء الصحفي وأنا في بغداد، ومن هي الصحيفة التي ستنشر تكذيبك في العراق أو حتى خارج العراق؟ قلت شكرا جزيلا لك. ولم أذهب إلى بغداد.

لكن ما قامت به جريدة الثورة قد تجاوز ما كانت تقوم به صحافة صدام حسين في العراق. فلم تكن بحاجة إلى انتظار زيارتي لسورية ولا للتعب في إجراء مقابلة ولو شكلية. لقدر قررت هي نفسها كتابة مقال ونسبه لي وأنا مقيم على بعد آلاف الكيلومترات عن دمشق. إن ما قامت به جريدة الثورة من تلفيق كامل لمقال يمتدح السياسة السورية ويشتم الصحفيين والمسؤولين اللبنانيين يقدم مثالا صادقا وحيا على الطريقة التي تحكم بها النخبة البعثية سورية، دولة ومجتمعا، أعني سياسة الكذب والخداع والتزوير، كما يعبر عن الوضع اليائس الذي تعيش فيه هذه النخبة نفسها التي لم تفقد أي أخلاقية مهنية فحسب، ولكنها فقدت الثقة بنفسها وبمثقفيها وقادتها ولم يعد لديها وسيلة للبقاء إلا الغش والانتحال. وربما كان من الضروري، كي يدرك القاريء السوري والعربي مدى الانحطاط الذي وصلت إليه هذه "النخبة"، أن أعيد على أنظار القاريء بعض الفقرات المنشورة في المقال المزور المنشور باسمي. فلعله يتبين بنفسه من هو الكاتب الحقيقي للمقال. وبالرغم من أن ارتكاب مثل هذه الجريمة كان من الممكن أن يكلف أصحابه مناصبهم في أي في بلد يسود فيه حكم القانون، حتى لو كان قانون الإعلام السوري نفسه الذي صيغ لإلغاء حرية الرأي والتعبير، فإنني متأكد من هؤلاء سوف يحظون، في نظام قائم على تزوير إرادة الناس واعتقاداتهم وآرائهم، على أعلى درجات المحبة والتقدير من رؤسائهم ومسؤوليهم. فهؤلاء هم النموذج المطلوب تعميمه في سورية في كل الميادين ومجالات العمل والنشاط. ولهم وحدهم لهم الحق في القيادة والسيادة والحياة.
هذه، للتأمل، بعض فقرات المقال التي أريد لي أن أكتبها، وهي التي يردد ما جاء فيها كل أزلام النظام وأنصاره صباح مساء :

"واعتذر للقارئ الكريم للانتقال المفاجئ الى موضوع آخر تماما, وبصرف النظر عن موقفي السياسي, فإنه حين يقول بعض صبيان السياسة اللبنانية وغلمانها ان القيادة السورية تشتري الوقت عبر مماطلتها بعدم التعاون مع ميليس فإن مثل هذه التهويمات تدل على الدرك او الحضيض الذي وصل اليه التحليل السياسي عند هذه الحفنة من الاغرار ".‏

"وحقيقة الامر فإن القيادة السورية تشتري الوقت ليس للمماطلة بل لانكشاف حقيقة اميركا, كخصم رئيسي جبار وعتيد لها, بحيث يكون الانكشاف ليس على المستوى الاقليمي وحده بل على المستوى العالمي" .‏

"فبعد عودة مصطلحات مثل .. حرب فيتنام... فضيحة ووتر غيت..احتمالات عدم اكمال بوش لفترة رئاسته..البطة العرجاء.. مأزق الحزب الجمهوري في انتخابات الكونغرس القادمة... وغير ذلك من ازمات وفضائح تعطي سورية مزيدا من التقاط الانفاس تجاه المعركة غير المتكافئة بينها وبين اميركا ".‏

"وتأتي مسألة قصف فضائية الجزيرة ودفع البنتاغون اموالا لنشر مقالات في صحف عراقية تبيض صفحة الاحتلال الاميركي حلقة في سلسلة الفضائح التي تساهم في عملية التآكل" .

"ويأتي الاستطلاع الذي أجرته جامعة ماريلاند بالتعاون مع مؤسسة زغبي العالمية والذي اكد ان غالبية الذين شملهم الاستطلاع يعتبرون الكيان الصهيوني واميركا العدوين الاولين للعرب وان غزو العراق لم ينشر الديمقراطية بقدر نشره للارهاب, هي الحقائق التي سعت سورية لكشفها بالضبط في عملية كسب الوقت تجاه حالة التضليل والتعمية التي تمر بها المنطقة وعلى الاخص من قبل الاقزام التقليديين والمزمنين والطارئين والجدد في لبنان" .‏

"واخيرا فإن تآكل ادارة بوش لا يخفف شيئا من التحامل والظلم والعدوان الاميركي تجاه سورية فقط لكنه يؤسس لمرحلة جديدة من الوعي ومن ضمنها اعادة نظر انجيلا ميركل في مسألة انفتاحها على اميركا المهترئة تحت ادارة بوش, فربما انها قد بنت استراتيجيتها في ظروف لم تكن فيها اميركا على هذا المستوى من التآكل". جريدة الثورة وشام برس".