السفير/ياسين الحاج صالح

بالتفاعل مع الضغوط والقرارات الدولية المتصلة باغتيال الرئيس الحريري، والانسحاب من لبنان في نيسان الماضي، وتقريري لجنة التحقيق الدولية اللذين عبرا عن الاشتباه بدور سوري في اغتيال رئيس الوزراء اللبناني، وصدور القرار 1636 و1644، ووسائل الإعلام اللبنانية والعربية والسورية، بالتفاعل مع الوقائع والتحولات هذه كلها، أخذت الحرارة الوطنية بالارتفاع في سوريا إلى درجة تقارب الحمى. بعض الارتفاع هذا ثمرة أفعال تعبئة متعددة الأشكال تتخذ من الشارع ووسائل الإعلام مسرحاً، لكن بعضاً آخر منها ثمرة تفاعل قطاعات من السوريين تشعر بالفعل بأن البلد مهدد، ولا تثق بنيات الأميركيين، وتخشى من مخاطر انزلاق سوريا في مسار عراقي.

من أكثر المدركات تداولاً في هذا المناخ المحموم مدرك الوحدة الوطنية، الذي يعني عادة انخفاض الأصوات السورية جميعاً دون صوت المعركة، أي عملياً النظام. الأصوات المعارضة والمستقلة الناقدة تجازف بأن تتهم بالخيانة أو التواطؤ مع <<الخارج>>، حسبما ألمح الرئيس بشار الأسد نفسه في خطاب ألقاه في 10/11 في جامعة دمشق. ومعلوم أن كثيراً من المعارضين أنفسهم دأبوا على تسويغ مطالبهم الخاصة بالحريات وحقوق الإنسان بمردودها المفترض على <<الوحدة الوطنية>> و<<الجبهة الداخلية>>، والرد على <<المخاطر الخارجية>>، من دون نقد لهذه المدركات وللثقافة السياسية التي تتأسس عليها. المضمر في هذا الكلام أن حرياتنا وحقوقنا تحتاج إلى تسويغ من شيء آخر يعلو عليها بدل أن تكون هي أساس كل تسويغ وشرعية. وقبل بعض الوقت أصدر ناشطون بعثيون وأصدقاء لهم وثيقة تحت عنوان <<الوطن في خطر>>، رمت <<إعلان دمشق>> المعارض والقوى الموقعة عليه بما يقارب الخيانة الوطنية.

وبينما يتوقع المرء أن استسهال إصدار الأحكام يقتضي مفاهيم ومعايير بالغة الوضوح، فإن الواقع يشير إلى أن الاستسهال المذكور يواكب اختلاطاً في المعايير واضطراباً في المفاهيم. فليس ثمة نقاش من أي نوع حول مفاهيم المصلحة الوطنية السورية أو الأمن الوطني السوري أو الوحدة الوطنية، أو الوطنية السورية ذاتها. وليس هناك مراجع ذات قيمة حول هذه المفاهيم، أو كتابات يمكن للنقاش أن ينبني عليها أو على نقدها. هناك في الواقع تصورات عاطفية وشعورية لهذه المفاهيم، لكن ليس أبداً تصورات عقلانية منظمة. ومن جهة أخرى، قد يمكن استخلاص هذا المفاهيم من خطب الرسميين، من أجهزة الإعلام، ومن السياسات الممارسة، لكن ليس لنا أن نتوقع تحليها بالاتساق والوضوح. ويسهل للنظام استخدام هذه الصيغ الشعورية والمختلطة من أجل توزيع الوطنية والخيانة على السوريين، دون أن يكون ثمة معايير واضحة لهذه الأحكام، ودون أن تكون بيد المواطنين السوريين والمهتمين بالشأن العام أدوات عقلية تمكنهم من الدفاع عن أنفسهم ضد التشوش والغموض، أو ضد السياسات التي تستفيد من التشوش والغموض لتفرض نسخها هي من المفاهيم المذكورة. وهي نسخ منحازة ومرتبطة بنظام للسلطة لا يكاد يؤثر عامة السوريين على هياكله وخياراته ومستقبله، ومستقبلهم في ظله.

إن احتلال النظام موقع توزيع ألقاب الوطنية وتهم الخيانة هو مصدر قوة أساسية له. فهو بذلك يضع نفسه فوق المساءلة، بينما يغدو السوريون جميعاً تحتها، مطالبين كل لحظة بتبرير مواقفهم وتبرئة أنفسهم من خيانات محتملة. وسيكون المواطن وطنياً بدرجة تتناسب مع قربه من النظام، الأمر الذي لا يقوض شرعية المعارضة السياسية، بل الشرعية السياسية والعقلية لمفهوم المعارضة ذاته.

هناك مشكلة بلا ريب في مفهوم الوطنية حين يستخدم كثيراً للتخوين وقليلاً لحماية المواطنين والدفاع عن حقوقهم. لذلك فإن تحرير الوطنية من يد النظام هو شرط شرعية المعارضة والنقد السياسي وشرعية النظام بالذات.

من حيث المبدأ لا تطابق المصلحة الوطنية لأي بلد مصلحة الفريق الحاكم، لكن هذا يمكن أن يخدم المصلحة الوطنية بقدر ما يكون منتخباً انتخاباً حراً نزيهاً. فالانتخابات الدورية آلية تحقق من خدمة الفريق الحاكم للمصلحة الوطنية. والحكم فيها هو الاختيار الشعبي الحر. في غيابه، تنفصل الوطنية عن الخيارات الشعبية، ويبقى تقدير مصلحة الوطن متروكاً لأخلاقيات الحكام ونياتهم الحسنة. وهذا شيء لا يمكن التعويل عليه، لأن <<السلطة تفسد والسلطة المطلقة تفسد إفساداً مطلقاً>>، حسب عبارة اللورد آكتون المأثورة. في هذه الحالة، أعني دون اختيار شعبي حر، يميل الفريق الحاكم إلى مطابقة المصلحة الوطنية مع مصلحته وبقائه حاكماً. ويجنح كذلك إلى مطابقة الأمن الوطني مع أمنه لا مع أمن مواطنيه، وإلى نشر مفهوم للوحدة الوطنية يجعل النظام قيماً عليها، ويضعها في تعارض مع استقلال المواطنين السياسي ومبادراتهم الحرة.

المعادلة الأساسية في هذه الشروط، والتي تنطبق على سوريا، هي المماهاة بين الوطن والنظام، الأمر الذي يمحو المسافة بين نقد النظام و<<خيانة>> الوطن.

المفارقة التي تستوقفنا أن كثرة الكلام على الوطن والوطنية تقترن بأدنى إنتاج فكري أو بحثي عقلاني حول قضايا الوطنية والوحدة الوطنية والمصلحة الوطنية والأمن الوطني. عند التدقيق قد تتبدد المفارقة. وقد يبدو أن الوطنية الحارة، إن جاز التعبير، وهي ذاتها الوطنية العاطفية أو الحدسية، أنسب للتحكم بالسكان والحد من فرص الاعتراض الداخلي، من الوطنية الباردة أو العقلانية التي يخضع لضوابطها الحاكمون والمحكومون، الحاكمون قبل المحكومين.