السفير/حسام جزماتي

يخطئ معارضون سوريون ومراقبون خارجيون حين يقللون من حجم التأييد الطوعي الذي بات يحظى به نظام الرئيس بشار الأسد، وحجم <<الالتفاف>> حوله للدفاع عن <<الوطن>> ضد ما يواجهه من <<تهديدات>> خارجية متزايدة منذ مقتل الرئيس رفيق الحريري. وجذر هذا الخطأ يكمن في نظرة سياسية ثقافية للواقع السوري، تتخلى عن معاينته لصالح قراءة <<ديموقراطية>> محضة، لا تأخذ في اعتبارها سلم أولويات السوريين المرتب وفق معطيات معاشية مباشرة، و<<ثقافة>> سياسية لا صلة لها بالوعي المدني أو السياسي الحديث.

فالسوريون، الذين ينظرون إلى السياسة الدولية بوصفها <<مؤامرة>> من الدول الكبرى، وإلى الغريب، لا سيما الأميركي والأوروبي، بوصفه طامعا ومشروع محتل دائما، وإلى المجال الاجتماعي للدولة بوصفه عائلة يجب إظهار تكافل أفرادها في مواجهة الغريب؛ لا تشكل الديموقراطية واحدة من احتياجاتهم الجادة. إذ تقتصر أولوياتهم على تأمين متطلبات الواقع المعاشي، والحفاظ على <<الأمان>> الذي ينعمون به. وعلى خلفية المشهد العراقي الحاضر بقوة، والمرشح في أذهانهم للتكرار حرفياً في سوريا في حال إزالة النظام، يفضلون بلا شك ظلم ذوي القربى، فهم في نهاية المطاف <<إخوة>> في عائلة أو عشيرة واحدة، إن غوت غووا، وإن ترشد يرشدوا.

وبتحدرهم من خبرات قرون من الاستبداد التاريخي، مثل غالبية العرب، فإنهم ينظرون إلى التعسف والظلم بوصفهما جزءا من تعريف الحكم. ولا يشتكون جدياً منهما إلا إذا وصلا إلى استفحال عشوائي يهدد الحياة المباشرة للأفراد العاديين. وهم متفقون على أن السنوات القليلة الماضية أخف وطأةً مما سبقها من عقود، ولهذا يفضلون <<إعطاء الفرصة>> للرئيس الحالي لإصلاح الأوضاع الداخلية، على <<محتل>> يريد <<انتهاك>> الكرامة الفردية والجماعية. <<الخيار الثالث>>، ببساطة، خارج حسابهم للاحتمالات. وفي نهاية المطاف، ليس بينهم وبين الرئيس بشار الأسد دمٌ به يطالبون. وهو في نظرهم <<طيب>> ومخلصٌ بقدر ما يمكن لحاكم. كما تدل الإصلاحات التي يحاول إطلاقها بعدد لانهائي من المراسيم، على رغبته الصادقة في تحسين وضعهم المعاشي وتحقيق انفتاح اقتصادي وتقني وإعلامي. وإذا كان عددٌ كبير من هذه المراسيم لم يحقق تغييرا يذكر على واقع الحال، فمرد ذلك إلى <<الحاشية>> المنتفعة والبيروقراطية التي تحاول إعاقة ما يرغب به الرئيس من إصلاحات، علما بأنه دائبٌ على تقليم نفوذها وإقصائها بالتدريج.

وبتخلي النظام عن قسم كبير من دعاويه وسياساته الاشتراكية، شعر عددٌ كبيرٌ من السوريين بالانفراج، وبإمكانية الإثراء من مبادرات تجارية أو صناعية فردية. وبتخليه النسبي عن سياساته العلمانوية، صار يغازل جانباً من الشعور الديني كما يتجلى بشكل شعبي. وإذا كانت عبارة مثل <<قوتان لا تقهران: قوة الله وقوة الشعب>> قد بدت مدرسية وغامضة وسلطوية، فإن تعميم الأهزوجة <<الشام الله حاميها>> ليشمل كل سوريا، يتكىء على رصيد ديني ووجداني عام تحمله العبارة الأصلية.

وبتراجع النظام عن التشديد على الأولويات القومية، لصالح إحياء وطنية سورية خجولة وهشة أساساً، وذلك بالتركيز الإعلامي والإجرائي على الشأن السوري، إثر حرب الخليج وتنامي الدعوات القطرية بين العرب؛ بهذا التراجع كان النظام يخاطب في الناس اعتزازاً غريزياً بكونهم أعضاء متضامّين في جماعة أضحت واضحة المعالم. وبين انتماءاتهم وهوياتهم المتعددة، من إسلامية وعربية إلى جهوية وطائفية وعشائرية، اختير لهم الانتماء الجغرافي والكياني ليكون رابط لحمتهم المعلن، وحصنهم في مواجهة الآخر. وقد استجابوا لهذا الاختيار بكل الصدق الذي يمكن أن يتيحه شعور جمعي، فهم معادون للأمريكان عالمياً (تربت أجيال سورية على هذه الكراهية، منذ عبد الناصر إلى بن لادن، مروراً بالكتب المدرسية والشعارات الذائعة، بحيث أصبحت هذه الكراهية بديهية)، وللبنانيين إقليمياً (بعد خروج الجيش السوري، و<<مهاجمة سوريا>> من قبل قطاع واسع من اللبنانيين)، وللأكراد داخلياً (على خلفية المشهد العراقي أيضاً؛ وقد تجلى هذا الشعور عند حدوث <<أعمال شغب>> إثر مباراة بكرة القدم في مدينة القامشلي في آذار 2004).

ومن مقتضيات الحس الجمعي نقصٌ في المحاكمة العقلانية، وانجرافٌ عاطفي إلى كراهية من يمس <<حمى>> الجماعة الواقعي أو النفسي، وتكاتفٌ في مواجهة <<الشدائد>>، وتجاوز الخلافات الداخلية التي تحدث بين أفراد <<البيت>> الواحد، وبالتأكيد... محض الولاء المطلق لكبير العائلة، بينما هو يواجه الخطر الخارجي. ومن هنا يأتي اعتبار المنشق عن الجماعة، أو المشكك في بعض مسلماتها، خائنا <<أهليا>> قبل أن تلوح له السلطة بالتخوين السياسي. وهذا ما يفسر بعض أسباب عدم ثقة السوريين بالمعارضة، ففي <<هذا الوقت بالذات>>، والجماعة تتعرض لخطر الخارج، يبدو كل تساؤل <<تشويشا>> يمكن أن يثير الخلافات الداخلية، ويهدد <<الأمن>> النفسي الجمعي قبل أن يهدد الأمن بالمعنى المعروف.

والسوريون مغرمون بأمانهم. فعقب سنوات طويلة من <<الاستقرار>> تراجعت القدرة على مواجهة عالم متغير ذي حراك اقتصادي واجتماعي وسياسي قوي. وساد الشعور بأن <<الدولة>> هي ضامن استمرار الرتابة الآمنة للعيش، سواء بقطاعها العام المترهل كثيراً، أو بالمناخ الاقتصادي والاجتماعي الثابت نسبياً لأعمال الحرفيين و<<التجار>>. وسواء أكان البديل <<احتلالا>> أم لا، فإن انفتاح سوريا المباشر والكلي على العالم يعني للكثيرين هزات وأخطاراً لا يقوون على مجابهتها. وأخيراً، يكمن سبب نفسي خاص وراء الكثير من مظاهر التأييد الطوعي الشبابية، كما تتجلى في اعتصامات وتحركات مختلفة، يجعلها مختلفة عن <<المسيرات>> الإلزامية التي كان السوريون يقادون إليها في السابق. ففي عهد الرئيس حافظ الأسد، واثر تعقيم المجتمع من السياسة، كان السوريون يشعرون بأن وجودهم ككائنات سياسية نافلٌ بالنسبة إلى النظام. وأمام هيمنته الكلية على المجال العام، كان المطلوب منهم فقط الخروج في مسيرات كئيبة لإظهار الولاء، كديكورات لا قيمة لها على مسرح الفعل، مساقين بفعل أجهزة الرصد الأمنية والحزبية في المؤسسات الحكومية والتعليمية. أما في عهد ابنه <<الشاب>> الذي ترك جزءاً من المجال العام خارج السيطرة المشددة، فقد شعر شبان سوريون بأن بإمكانهم اتخاذ موقف سياسي خاص و<<مستقل>>. ونتيجة عهود مديدة من <<التربية>> فإن سقف المطالب الداخلية التي استطاعوا التفكير بها هو سقفٌ إصلاحي بالفعل. أما في مواجهة الخارج، فإن هؤلاء الشبان يشعرون بأن رئيسهم <<يحتاج>> إلى مساندتهم، ما يعطيهم فرصة أن يكونوا فعالين، ومؤثرين في مجرى الأحداث، وعلى سوية ما يشاهدونه من مظاهر عالمية في الفضائيات. إنهم الآن يمارسون <<السياسة>>، فيشتمون ميليس ووليد جنبلاط، ويقفون ضد الذين يهينون <<إخوتهم>> في العراق وفلسطين، ويهتفون أحراراً طائعين (الله... سوريا... بشار وبس) وهم يلوحون بالعلم السوري العائد بعد غياب.