الحياة /وائل السواح

يبدو أن ثمة سباقا بين السلطة السورية ومعارضتها «العلمانية» لاستمالة الشارع الإسلامي، كل إلى جانبه. ذلك اعتراف من كلا الجانبين بإفلاس برامجهما التي عملا عليها منذ مطلع الستينات وحتى الاحتلال الأميركي للعراق. وهو اعتراف مشترك بأن الإسلاميين يلعبون دور بيضة القبان في التوازنات السياسية في الخريطة السورية.

ولا يمكن مغالبة إغراء التفكير أن في سياسة الطرفين إذعانا مثيرا للدهشة وارتدادا عن واقع عرفته سورية منذ انفكاكها عن الدولة العثمانية، اذ طالما وجد – عمليا على الأقل وإلى حد كبير - فصل بين الدولة والدين. ما يسعى إليه الطرفان هو تقويض هذا الواقع والعودة بالبلاد خطوات إلى الوراء حيث يلعب رجال الدين دور الساسة أو دور الموجه للساسة على غرار الجمهورية الإسلامية في إيران.

من هذا المنطلق يمكن قراءة سلسلة من المؤشرات التي بات من غير الممكن تجاهلها. ففي تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، عقد في جامعة دمشق عن «المرأة والتقاليد،» رعاه وزير التعليم العالي وشاركت فيه نخبة من المفكرين والمفكرات في هذا الحقل من مختلف بلدان الشرق الأوسط. وزع منظمو المؤتمر كتابا بعنوان «فلينزع الحجاب»، وهو مطبوع في سورية بشكل نظامي وقد حصل الناشر على رخصتي طباعة وتوزيع. رد فعل الإسلاميين كان هائلا، داخل المؤتمر وخارجه. ففي الداخل شنوا هجوما غير مسبوق على الأفكار الليبرالية التي طرحت، وفي الخارج كان موضوع الندوة وتوزيع الكتاب مادة في غير مسجد دمشقي، يوم الجمعة التالي. وهو، على أي حال، رد فعل مفهوم. غير أن رد الفعل غير المفهوم جاء من قبل السلطة. اذ استنفرت أجهزة أمنية لملاحقة الموضوع، واستدعت منظم المؤتمر وناشر الكتاب لمساءلتهم، ولم تجد معهم حجة أن المؤتمر كان برعاية وزير التعليم العالي وأن الكتاب كان مرخصا من قبل وزارة الإعلام. كانت رسالة الأجهزة واضحة لا غبار عليها: هذه منطقة حرام الآن.

والرسالة نفسها جاءت من السيدة غادة مراد، المدعي العام للجمهورية ورئيسة لجنة التحقيق التي شكلتها الحكومة السورية للتحقيق في جريمة اغتيال رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري، عندما بدأت مؤتمرها الصحافي بعبارة «بسم الله الرحمن الرحيم.» القضاء السوري مؤسسة مدنية، والأحكام في سورية، ونظام القضاء يبدأ عادة جلساته وأحكامه وتقاريره باسم الشعب. وليست هذه حادثة مفردة، وقعت بسبب تدين السيدة القاضية. والأحداث التي سبقتها وتلتها تجعل الوقوف أمامها والتفكير بها مليا أمر لا بد منه. اذ يبدو أن الحكومة السورية قررت أن تلعب لعبة تجيير الدين الإسلامي بدعاته وواعظيه وخطبائه لدعم الحكومة في صراعها مع الأمم المتحدة والغرب.

وفي هذا السياق خصصت خطب الجمعة في الأسابيع الفائتة لحشد مشاعر المؤمنين الدينية «دفاعا عن الإسلام». ففي خطبة يوم الجمعة في 18 تشرين الثاني، والتي نقلتها الإذاعة السورية، حض الخطيب الصناعيين والتجار ورجال الأعمال على الجهاد بأموالهم لإكمال جهاد الآخرين بأنفسهم. أما الدكتور محمد حبش، عضو مجلس الشعب، فخاطب جمهور المصلين في اليوم نفسه في مسجد آخر، محذراً من أن سورية ستمر «بايام سوداء،» طالبا من الناس الرباط وشد الأحزمة لمواجهة هذه الأيام، مشددا أنه يفضل «ألف مرة» أن يبقى في بلد محاصر، محافظا على دينه ومبادئه، من أن يعيش في بلد يفرط فيه بالدين والمبادئ.

المسألة إذن واضحة. ثمة استخدام للدين في تجييش المسلمين السوريين لمواجهة الضغوط الدولية. ولكي ينجح الخطباء في ذلك لا بد من أن يصوروا الخطر وكأنه يتهدد الدين الإسلامي نفسه وليس وضعا سياسيا معينا. ويبدو أن هذه اللعبة صارت شائعة في الفترة الأخيرة بين الحكومات العربية، وساعدتها في جهودها السياسة الأميركية التي تتسم غالبا بضيق الأفق.

والمشكلة أن المسألة لا تقف عند حدود السلطة. فالمعارضة غالبا ما تلعب اللعبة نفسها، متوهمة أنها بذلك تجر الشارع المتدين إلى صفها. ولئن آثرت السلطة الاستفادة من خطباء المساجد والوعاظ في مشروعها، فإن المعارضة اختارت الإسلام السياسي. وما إعلان المعارضة السورية التقليدية الذي ظهر الشهر الماضي باسم «إعلان دمشق» إلا مثالا على ذلك. فالإعلان الذي وقعته مجموعة من الأحزاب القومية واليسارية والكردية والشخصيات الليبرالية لم يتوان عن مغازلة تيار الإسلام الديني ممثلا بجماعة «الإخوان المسلمين»، وذلك بإلصاق رقعة من برنامج الأخيرين «الحضاري» في الإعلان، من دون أن يكون لها أي سياق منطقي او تناسق مقبول؛ وتنازلت، من دون أن يرف لها جفن، عن تاريخ سورية العريق في العلمانية وفي فصل الدين عن الدولة. وكانت النتيجة أن سارع «الإخوان» الى رد الجميل فأعلنوا انضمامهم الى «إعلان دمشق» بعد ثلاث ساعات فقط من إعلانه، وهي مدة كانت كافية لقراءة البيان وتحليله وفهمه ومناقشته والتصويت عليه ومن ثم إعلانه!