ميشال كيلو/النهار

‍أسعدني كثيرا وأبهجني حديث سماحة السيد حسن نصر الله على شاشة المنار. وأفرحتني لغته، التي بحثت عن جوامع مشتركة تطمئن اللبنانيين، ومعهم السوريين، وجعلتني أتمنى سماع لغة تشبهها في سوريا، ترى الذات بدلالة البلد، وتضبط حساباتها عليه، ولا ترى البلد بدلالة الذات، فتطوح به إلى ما يخطر وما لا يخطر على البال من أخطار، بما فيها تلك التي لا قدرة لها على مواجهتها.

لكن سعادتي لا تمنعني من طرح سؤالين على سماحته هما: هل صحيح أن نضع قاعدة ملزمة تقول إن الدول لا ترسم حدودها في حالات الخلاف، وأنه ليس من المقبول والمعقول المطالبة اليوم برسم الحدود بين سوريا ولبنان؟. وهل يخدم موقف حزب الله، المنحاز دوما إلى النظام السوري، المصالحة، التي أكد أنه يريدها، وأريدها من كل قلبي وعقلي معه، داخل لبنان وبينه وبين سوريا؟.

_-بداية لا أود التذكير برسم الحدود السورية مع الأردن، الذي تم قبل أشهر قليلة، بعد أزمة عرفت تصريحات عنيفة متبادلة بين المسؤولين ووسائل الإعلام في البلدين، شارك فيها الملك عبد الله، تنازلت سوريا خلاله عن نيف ومائة وخمسين كيلومترا مربعا من أراضيها للدولة الشقيقة، مقابل كيلومترات قليلة استردتها منها. ولا أريد التذكير كذلك بالمبدأ القائل: تحل المشكلات حين يسبب الامتناع عن حلها مشاكل أكبر منها، أو حين يصير من الصعب التعايش معها. لكنني أود التذكير بأن هذا النمط من المشكلات لا يعرف قواعد مقدسة يجب الالتزام بها في جميع الظروف والأحوال، كقول صاحب السماحة إن أحدا لا يحل مشكلة حدود بين بلدين يسود علاقتهما الخلاف والتوتر، فالخلاف والتوتر يعوّقان حل المشكلات، لكن الحل يصير أمرا تستوجبه المصلحة والسلامة، عندما يغدو سيل الخروج من الخلاف والتوتر. أخيرا، أود التذكير بأمرين: 1- أن عمر الخلاف والتوتر أشهر قليلة فقط، وأن المشكلة لم تحل، حين كان حلا سهلا ومتاحا، عندما كانت علاقات البلدين طبيعية وجيدة جدا خلال القسم الأكبر من الفترة التي سيطر الوجود العسكري السوري فيها على لبنان.

_-أن الحل لا يكون ضروريا أو غير ضروري انطلاقا من قاعدة عامة، بل من الواقع، وأنه يصير إجباريا ، إذا كان يسهم في تحسين الأجواء بين البلدين.

أقول ما قلته لأؤكد أن معارضة ترسيم الحدود بحجج وقواعد عامة ليست أمرا صحيحا، فالأصل هنا إسهام الترسيم في تحسين واقع سيء ويسوء من يوم لآخر، وليس الأصل توافقه مع قواعد عامة ومجردة وخاطئة، خاصة وأن سوريا تجاهلت المسألة طيلة نيف وربع قرن، كانت راهنة خلاله، وأن هذه الواقعة كانت تستحق أن تحتل حيزا من تفكير سماحته، قبل اتخاذ موقف قطعي منها يستند إلى ذرائع يجافيها واقع الدول المتنازعة حول مسائل حدودية، التي كثيرا ما تمت تسويتها في ظل اشتباكات عسكرية متبادلة، مثلما حدث على الحدود الروسية/ الصينية أوائل الستينيات. قد لا أكون مع ترسيم الحدود اليوم، إن كان في عدم ترسيمها نفع لأحد البلدين أو لكليهما. لكنني بالتأكيد معه، إن كان يسهم ولو جزئيا في تحريرهما من أجواء التوتر والخلاف والتصعيد الراهنة، وفي تقييد التدخل في شؤونهما مجتمعين أو منفردين، علما بأن موقف المسؤولين السوريين من المشكلة، كما عبر عنه الأستاذ فاروق الشرع، ليس مقنعا، فقد قال: إن رد مزارع شبعا إلى لبنان سيكون ممكنا بعد استرداد عروبتها. هذه حجة غريبة ومتهافتة، ما دام ترسيم الحدود سيعيد عروبة الأرض، بربط مصيرها بتطبيق القرار 425 وفصلها عن القرار 242 وقضية الجولان البالغة التعقيد والمؤجلة. ثم، ما الذي يحول دون الاعتراف الرسمي بلبنانية المزارع، أو وضعها في عهدة لبنان، ما دام هذا سيكل أمرها إلى المقاومة وسيعيدها إلى هويتها العربية، وسينهي احتلالها، الضار بسوريا ولبنان؟‍.

 لست من الذين يوافقون على جعل الحرب الأهلية في لبنان شرطا لقيام الديموقراطية في سوريا، أو أي مكان من عالم العرب. إذا كانت الديموقراطية السورية لن تقوم بغير حرب أهلية في لبنان، فأنا أتنازل عن حصتي منها، وافضل أن يبقى لبنان آمنا وهادئا، ولو بقي نظامنا في الحكم لعقود أخرى. أعتقد أن سماحتك تخاف مثلي الحرب الأهلية والفوضى. ولكن ما عساك تقول في حصة هذا النظام من توتير الأجواء مع لبنان، بحجج غير مقنعة وسياسات تتعارض مع مصالح الدولة العليا في سوريا؟. هل تعتقد، مثلا، أن إرسال قبضة قليلة من جماعة أحمد جبريل لتأسيس قاعدة عسكرية جنوب بيروت والانتشار خارج المخيمات كان لصد الإمبريالية الأميركية والمؤامرة الصهيونية والتدويل، كما قال ممثل جبريل في لبنان السيد أبو رجاء، أم كان القصد منه توتير أجواء لبنان وتخريب علاقات سوريا معه؟. أعتقد أنني أعرف ردك، وأعرف مخاوفك من توريط هذه الجماعة حزبَ الله ولبنان في مشكلات لا يريدانها، بعضها على علاقة بالسلم الأهلي، الذي أثق بحرصك الشديد عليه، وأشك في أن السيد جبريل يضعه بين أولوياته. كما أعرف، أخيرا، إيمانك بصعوبة المصالحة بين البلدين، مطلب سماحتك ومطلبي، في أجواء التوتير، ناهيك عن أجواء الشحن الداخلي في بيروت ودمشق، التي ستفضي حتما إلى خراب الدولتين والمجتمعين الشقيقين.

لن أقف هنا عند اللغة التي استخدمتها في بعض خطبك لوصف سوريا. سأقف فقط عند موقفك من تطورات لبنان الأخيرة، الذي أظن أنه لن يسهم في حل أزماته الداخلية ومشكلاته السورية، لسبب بسيط هو انطلاق سماحتك من رؤية ترى في كل ما يحدث عاملا واحدا هو الخارج، الذي يريد بعضهم في الداخل معاونته على تدويل أوضاع لبنان. يبدو أنه لا يوجد اليوم دور سوري في لبنان، إلا إذا كنت تعتقد أنه دور وطني/ قومي يؤدي تلك الرسالة النبيلة، التي كثيرا ما تحدث النظام السوري عنها، وانتهت إلى الكارثة التي تعرف ونعرف. هل يمكنك، برأي كهذا، الإسهام حقا في حل مشكلة العلاقات السورية/ اللبنانية، التي تتوتر وتتفاقم بسرعة مخيفة، من الضروري وقفها بأي ثمن، قبل أن تدمر البلدين؟. إن هذا الموقف سيحول بين سماحتك وبين حل الأزمة، لأنه يتبنى موقف النظام تجاه قسم كبير جدا من اللبنانيين، المتهمين بالعمالة للخارج– أميركا وإسرائيل– وبالعمل على وضع بلدهم تحت إشرافهما، ويضعك في موقع يجعل التفاوض صعبا إن لم يكن مستحيلا، والأزمة المتصاعدة مفتوحة، مع أنني أثق برغبتك في إنهاء التوتر القائم، لأن أمن لبنان وسلامه، بل وأمن وسلام حزب الله يتوقف على حلها بالروحية التي أملت حديثك لـ "المنار"، وجعلته يحفل بعبارات حول المشاركة والاخوة، التي أراحت الناس عندكم وهنا، لكنها لا تكفي لتسوية أزمة متفاقمة تجر البلدين إلى هاوية قاتلة لا مصلحة لهما فيها، تسوقهما إليه لغة تطنب في الحديث عن الأمة ومصالحها، كانت منذ نيف وأربعين عاما جزءا من عدة القتل والخراب العربي.